Wednesday, December 31, 2008

وسيم صلاح حسين...الطفل الكبير..وداعا


نحن الذين يموت أفضلنا ليحيا الآخرون بلا دموع

تبدأ روايتنا الحزينة بالاختفاء الغامض لوسيم فى بلد الثلج موسكو, حيث كان يعيش مع زوجته وأبنائه, وذلك فى أوائل شهر يونيو 2008, وبعد رحلة بحث مضنية لشقيقه ناجى عنه فى المشافى وأقسام الشرطة دون جدوى,أبلغ والدته وحينما علمت أمهما المناضلة شاهندة مقلد أسرعت بالسفر الى موسكو بحثا عن إبنها, ولكنها بعد رحلة بحث شاقة عادت الى مصر بخفى حنين।
فى شهر نوفمبر, أى بعد 5 شهور من اختفاء وسيم يرسل 50 من المثقفين وقادة الأحزاب وممثلى القوى السياسية المصرية برقيات الى رئيس وزراء مصر ورئيس وزراء الاتحاد الروسى بنداء بسرعة الكشف عن مصير المفقود.
وفى 25/12/2008 يتم العثور على جثة وسيم صلاح حسين فى مكان مهجور وبها إصابة بالرأس.

النيل عطشان يا صبايا
للحب وللحنين
والشط لا ناى ولا نسمة
ولا نور ولا عود ياسمين
يا شاهندة وخبرينا
يام الصوت الحزين
يام العيون جناين
يرمح فيها الهجين
ايش لون سجن القناطر
وايش لون السجانين

البداية

تبدأ رحلة شاهندة عبد الحميد شوقى مقلد منذ ولادتها لأب يعمل فى سلك البوليس متنقلا بين أقسام البوليس فى مصر, حاملا معه أبناؤه مدحت وعلى وكامل وشاهنده وشادية, مع إرتباطه الشديد بمسقط رأسه قرية كمشيش مركز تلا منوفية, منحازا إلى الفلاحين الفقراء, مدافعا عن حقهم فى التخلص من سيطرة وإستغلال عائلة الفقى الإقطاعية, باثا فى أبنائه روح الوطنية والثورة على الظلم।
ترتبط شاهندة روحيا فى وقت مبكر بإبن عمتها الشهيد صلاح حسين المناضل فى صفوف الحركة الوطنية فى القنال, وإن كانت شاهندة تفتح وعيها قبله على الفكر الإشتراكى من خلال معلمتها وداد مترى والتى كانت تنتمى الى تنظيم حدتو.
تقرر شاهندة الزواج من إبن عمتها, رغم معارضة الوالد والذى كان يتمنى لها زوجا أفضل, وتهرب اليه بالإسكندرية ليتم عقد قرانهما هناك, ليعيشا معا فى شقة متواضعة بحى الإبراهيمية, ويستمرا فى النضال أو المشاغبة كما ذكر الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين فى مقال له فى مجلة المصور فى هذه الأيام بعنوان(مشاغب ومشاغبة), وتنجب من الشهيد صلاح حسين أبناءهما ناجى ووسيم وبسمة, ليعيشوا جميعا فى هذه الشقة ومعهم فيما بعد الأم راقية السيدة العجوز التى كانت فى خدمة والدها, التى رعتها شاهندة حتى بعد فقدها لبصرها, وحين تموت تصمم شاهندة على دفنها فى كمشيش واقامة جنازة لها هناك.

كمشيش بتنفض من ترابها الموت

الدم ناشع، م الجدور للصوت

«الأرض أرض الفلاحين

ولا حد قد الفلاحين


حينما إغتالت يد الغدر والإرهاب الإقطاعية صلاح حسين فى 30 ابريل 1966 بيد قاتل مأجور بعد فشلهم فى الحد من تحريضه للفلاحين وتنظيمهم دفاعا عن أرضهم فى مواجهة الإقطاع, ليكمل درب شهداء الفلاحين الذين سبقوه ومنهم أبو زيد أبو رواش وعبد الحميد عنتر وآخرين, حينها كان أكبر أطفالهما ناجى عمره 7 سنوات, والمرحوم وسيم 4 سنوات وبسمة التى لم تتجاوز الأربعين يوما, هبت شاهندة كعادتها فى المحن لتقود ثورة فى وجه الظالمين والطغاة مصممة على دفنه فى جنازة تليق بالبطل الشهيد فى كمشيش, متقدمة صفوف الفلاحين, حاملة معهم النعش.
فى تلك الأوقات كان يرن فى أذنها (كما ذكرت فى قناة الجزيرة) ذلك النشيد الذى كان يردده الشهيد مع صديق عمره المناضل اليسارى وسيم خالد, والذى سمّى وسيم على إسمه, وكانت كلمات النشيد تقول:
سلاماً نقدمه في فخار.. جنود الكفاح لأبطاله.. إلى أكتوبر والثوار.. إلى يوم مايو وعماله.. لكل شجاع إلى الانتصار.. مضى في ثبات إلى حتفه.. على قبركم في مهب الرياح.. حمراء تخفق رايتنا.. تحيي رفاقا خاضوا الكفاح وماتوا ليحيا بهم حقنا.
لم تغلق شاهندة على نفسها باب شقتها وتتفرغ لتربية أولادها, وهوعبء كبير, ولكنها إستمرت بشجاعة فى قيادة فلاحى كمشيش وتنظيمهم وتنمية وعيهم, وخصوصا فى مرحلة إبعادهم عن أرضهم وديارهم فى كمشيش فى 14/6/1971, وهم عاشور وعبد المجيد وعلى عزام وغيرهم كثيرين, إحتضنتهم فى الأسكندرية, ووفرت لهم سكنا
من جيبها الخاص رغم ضيق الحال, وإستأجرت لهم معلمين ليعلموهم القراءة والكتابة, ووفرت لهم الكتب, على حساب قوت يومها وأولادها।
وسيم
كان المرحوم وسيم دائم الإبتسام, رغم مسحة الحزن الغائرة فى عينيه, قيل أنه بعد إستشهاد والده وكان عمره 4 سنوات كان يقف طويلا فى البلكونة فى إنتظار عودة والده, كان يعيش مع والدته فى جو متوتر دائما, أذكر مرة أن رجال المباحث عندما جاؤا للقبض عليها لم ينتظروا حتى يفتح لهم الباب بل اقتلعوه عنوة بعتلة, وكانت أمهم تغيب عنهم فترات طويلة, إما فى السجن أو هربا من البوليس, كانوا أطفالا صغارا خصوصا بسمة التى كانت فى سنواتها الأولى, ولكن كانت هذه الضريبة التى يدفعها الأبناء, لأباء إختاروا النضال السياسى فى مجتمعاتنا।
كأن القدر إختار لشاهندة مقلد أن تقضى حياتها فى إحصاء القتلى والشهداء, والدها وأخوها أشرف الذى إستشهد فى حرب الإستنزاف, وزوجها الشهيد صلاح حسين وأخوه الذى استشهد فى حرب اليمن, وفى نهاية الطابور تأتى النهاية المأساوية لفلذة كبدها, الأبن البار الشهيد وسيم صلاح حسين.

وداعا أيها الشهيد الغالى, ولا أعرف ماذا أقول لك يا شاهندة.

Tuesday, December 02, 2008

الحب فى زمن الكوليرا


تصادف أن دعانى أحد الأصدقاء, أثناء اجازة سريعة بالأسكندرية, لمشاهدة عرض شريط "الحب فى زمن الكوليرا"المأخوذة عن رائعة الكولومبى"جابرييل جارثيا ماركيز"والحاصل على جائزة نوبل.
بداية فأنا لم أقرأ الرواية, ولم أقرأ للمؤلف سوى رواية "مائة عام من العزلة", وعلى كل حال سوف أكتب بإختصار عن الفيلم فقط, والذى يتناول قصة حبيبين من مرحلة المراهقة والحب المجرد "النظرى", الى سن السبعين حين التقيا مرة أخرى.
إذن هى قصة الحب الخالدة بين"فلورينتو أريثا" عامل التلغراف البسيط, وفيرمينا أديثا" إبنة تاجر البغال الثرى, والتى يراها أثناء تسليم برقية الى أبوها, لتتعلق بها روحه من أول نظرة, كصاعقة من السماء أصابته, ليظل ممسكا بهذه اللحظة بقية عمره.
يبدأ فى كتابة سلسلة من الرسائل لها, وبعد تردد تكتب له, فى تتابع طويل من السرد يصيب ببعض الملل, وعندما يعطيان لبعضهما وعدا أن يكونا معا الى الأبد, فى جو رومانسى خالص, يتم طردها من المدرسة الدينية التى تدرس بها لضبطها وهى تكتب له رسالة, فيأتى أبوها كالثور الهائج, مصمما على رفض هذا الزواج بعامل التلغراف, لأنه يأمل بعريس من طبقة إجتماعية مميزة, ويعلن هذا الرفض صريحا لفلورينتو, وينتزعها من المدينة ويرحل بها بعيدا.
تستمر فيرمينا فى مراسلة حبيبها عن طريق التلغراف, ويظل الحبيب يحلم برؤيتها, وبعد عودتها بعد عامين تلتقى به فى أحد الأسواق لتكتشف أن حبها له لم يكن الا مجرد وهم, فتقرر إنهاء الموضوع والموافقة على الزواج من الطبيب الذى أعجب بها عندما إستدعاه أبوها للكشف عليها حين أشتبه فى إصابتها بالكوليرا.
بعد الزواج تعيش فرمينا حياة عادية لا تخلو من بعض المنغصات, لكنها تطوف العالم مع زوجها, وتندمج فى الحياة الإجتماعية, وتنجب, وتكاد تنسى حبها الأول, بينما فلورينتينو يغرق فى ملذات جنسية عابرة, ولكنه يعيش فى إنتظار اليوم الذى يموت فيه زوجها, ويعرف نبأ وفاته بعد 52 عاما من زواجها, فيقرر الإسراع الى الجنازة, ثم الى منزل حبيبته عارضا عليها حبه, فتطرده بقسوة, ولكنه لا ييأس, ويعاود الكرّة أكثر من مرّة حتى يفوز بقلبها, لينتهى الفيلم.
يبدأ الفيلم بمشهد الجنازة, بينما فلورينتينو يستمتع بلحظات حب مع فتاة مراهقة صغيرة, ليسمع صوت أجراس الكنيسة معلنة وفاة الزوج, ثم يعود المخرج على طريقة الفلاش باك ليحكى لنا قصة الفيلم.
والفيلم رغم عبقريته, وإجادة الممثلين لأدوارهم, الا أنه تعيبه بعض السقطات التى أعتقد أنها ربما بسبب الإخراج أو السيناريو وليست الرواية والتى أستبعد أن يكون ماركيز قد إقترفها.
فالفيلم لا يرصد البيئة الإجتماعية أو السياسية للواقع الذى يدور فيه, رغم تسجيله لحوالى نصف قرن من الزمان, فإنه يدور فى أغلبه مصورا الطبقة الأرستقراطية للفتاة وأبيها وزوجها, حتى حين تتوجه الكاميرا لتصوير الشاب المحب عامل التلغراف نرى المخرج يهتم أكثر بأصوله الغنية وميراثه من أبيه, وحتى وباء الكوليرا ظهر فى الفيلم كديكور خارجى, يمكن التفرج عليه من باخرة عابرة وليس كجزء رئيسى من العمل الدرامى, وتلك الحرب التى لانعرف بين من تدور ولا ما هو الهدف منها.
ورغم أن الفيلم يبدو كملحمة طويلة تتجاوز عدة أجيال مثل "السيرة الهلالية", الا أنها تركز أكثر على البطل ومغامراته فى عالم النساء, كما أن المشاهد الرومانسية فى الفيلم تذكرنى برواية "روميو وجولييت" لشكسبير, بما فى ذلك مشهد القيثارة, كما يذكرنى كتابته لرسائل العشاق برواية الشاعر أو "سيرانو دى برجراك".
أحزننى فى الفيلم نظرته الى المرأة وعدم تقديره لها, فالمرأة من خلال كاميرا المخرج فى الأغلب غريزية وسهل أن تخون, أو بتعبير البطل سهل إصطيادها, حتى تلك الحديثة الزواج أمكن له أن يوقعها فى شباكه بسهولة.
كما استطاع المخرج ربما بقصد أو بغير قصد أن يرسم بوضوح صورة البطل فى علاقاته النسائية الوضيعة, وموقفه النفسى والإنسانى من ضحاياه, فلا يهمه من حادث قتل الزوجة التى ضاجعها الا أن إسمه لم يرد فى التحقيق, ويبدى عدم الإكتراث كثيرا لإنتحار تلك المراهقة الصغيرة التى هو الوصى عليها, أو بمثابة والدها, والذى أقام علاقة جنسية معها, وإنتحارها بعد هجرانها لها ودعوتها للسفر الى أمريكا لإستكمال دراستها.
كنت أتمنى لو إنتهى الفيلم بمشهد رفض "فيرمينا" لعرض الزواج من"فلورنتينو" بعد وفاة زوجها, ولكن وبإسلوب مخرجينا فى وضع النهايات السعيدة, تم الإصرار على الإطالة الغير مبررة, والتى لا تخدم الهدف الدرامى للفيلم.
على أن أهم ما شدنى فى هذا الفيلم هو ذلك الدور العظيم للممثلة الرائعة التى قامت بدور أم فلورينتو.
ختاما فالأعمال الروائية العظيمة عادة ما يصعب ترجمتها دراميا الى الشاشة البيضاء, لقد عانى من ذلك أديبنا الراحل, الحائز على جائزة نوبل أيضا"نجيب محفوظ", مما دعاه أن يتبرأ من الأفلام المأخوذة عن رواياته, أرجو أن يكون هذا ماحدث مع أديبنا العظيم"ماركيز", لا أستطيع أن أجزم لأننى لم أقرأ الرواية
.

Monday, December 01, 2008

شخصيات من السجن



سمير محمدين

كان ذلك فى شتاء عام 1975 والأسفلت يبعث برودة قارسة فى الأجسام الغضة, والبرش المصنوع من جدائل الخوص يرسم علاماته بكامل التفصيلات, ليبدو الجسم مطبوعا بنقشه بدقة, وجردل البول يعّبق الزنزانة الضيقة, ولسعات القمل ذى اللون الأبيض تصيب الجلد بحساسية مستمرة.
هذا جزء من مشهد كافكاوى للسجن فى بلدى, ومجمل الصورة أكثر مرارة, يخفف من المشهد أحيانا أن تكون فى زنزانة جماعية, وأحيانا يزيد ذلك المشهد تعقيدا, يعتمد ذلك فى الغالب على من معك, ينطبق على ذلك مقولة "سارتر" ( الجحيم هو الآخرين ), فى هذه الظروف تعرفت عليه.
أسمر, طويل, له شارب دوجلاس صغير, يهتم دائما بمظهره, بدلة السجن الزرقاء دائما نظيفة ومهندمة, الحذاء نظيف, أسنانه بيضاء لامعة, شعره ممشط, يمشى بخطوات واثقه, ويحمل علبة السجائر البلمونت الصغيرة دائما فى جيبه.
كان يملك حساسية عالية, وإسلوب مميز فى التعامل مع البشر, إقترب منى وئيدا وعلى مراحل, وكأنما ينسج تفاصيل علاقة من نوع خاص, فى اللحظة المناسبة وبينما نجلس فى حوش الكانتين الضيق, إقترب منى محييا مادا يده بعلبة السجائر, تناولت واحدة شاكرا, أشعل سيجارته وإنتحينا جانبا, ودار بيننا حوار طويل.
مع مرور الوقت كنا نحرص على اللقاء أثناء فترة الفسحة, وإتسعت أطراف الحديث ليحكى لى قصته.
هو يحمل شهادة متوسطة, فى حوالى الخامسة والثلاثين, الإبن الأكبر لخمس بنات, أبوه يعمل صف ضابط فى البوليس برتبة متواضعة, أخته الكبرى"سناء" حاصلة على دبلوم تجارة متوسطة وتعمل فى الحى, ولدوا جميعا وعاشوا فى مدينة"بور سعيد" حتى العام 1968, كانت حياة متقشفة لكن هادئة, حتى اضطروا مثل الملايين من سكان مدن القناة الى التهجير الى مختلف المدن المصرية, فى أكبر هجرة جماعية شهدتها مصر فى تاريخها الطويل.
كانت محطتهم فى إحدى المدارس بالأسكندرية, فى حى باكوس الشعبى المزدحم, تكدسوا جميعا فى أحد فصول المدرسة, تشاركهم عائلات أخرى كثيرة فى باقى الفصول, حياة جديدة عليهم, الأصوات العالية والضجة لا تنتهى, طقوس الإذدحام والحاجة تؤدى الى مشاكل مستمرة وخناقات, توجدعلاقات كثيرة غير مشروعة, ومشاريع حب مجهضة.
تم تسليمه عملا بالتليفونات, وعمل أبوه بقسم سيدى جابر, وأخته"سناء" بحى شرق, باقى البنات التحقوا بمدارس قريبة, وإستمرت الحياة بصعوبة, والأم تحاول تدبير الحياة الجديدة بمشقة, تحاول هذه السيدة أن تسد الأفواه المفتوحة بأى وسيلة, مداعبات البنات مع أمهن لا تنقطع, يذكر لى "سمير" أنهم لم يكونوا يأكلون اللحم الا فى المناسبات, كانوا فى أغلب الأيام يفطرون جبنا بالزيت مع الخبز والشاى, وتتكر الوجبة فى الغذاء, وفى المساء عندما تعجز الأم عن ماذا يؤكلون, تبتسم البنات فى خبث ( وحشتنا الجبنة أم زيت ياماما).
هروبا من المكان الضيق والمزدحم, تعّود سمير الجلوس على مقهى فى "كامب شيزار", تعرف هناك على بعض الشباب كان منهم " سيد" و"سلامة", وبدأ تفكيره يتجه الى عمل ضربة كبيرة تخرجهم من الفقر, وجهه هذا التفكير الى بيت الخواجة "أنطونيو", الساكن فى عمارة كبيرة وقديمة فى الإبراهيمية, حيث قد كان زاره سابقا لإصلاح التليفون, ولاحظ أنه يقيم وحده, وعندما أراد الخواجة أن يعطيه بقشيشا دخل الى غرفة النوم وبقى فيها طويلا قبل أن يحضر النقود.
بعد إتخاذ قرار العملية, قرر أن يعترف للأسرة, جمعهم بعد العشاء, وحكى لهم القصة, وأعلن لهم قراره بسرقة الخواجة, إعترضوا فى البداية, ولكنه أقنعهم أنه لا حل من الخروج من أزمتهم إلا من خلال هذه العملية المضمونة, ضمن موافقتهم, إنطلق الى القهوة, وإختلى برفاقه فى أحد الأركان, ورتب معهم دور كل واحد منهم.
كانت الخطة أن يلبس سمير ملابس ظابط, وينتحل الأخريان صفة مخبرين, وبعد دخول البيت يأخذون المال فقط ويهربون, ويقوم سمير بإخفاء المبلغ لحين تقسيمه, ذكر لى سمير أن أبوه قام بتأمين المنطقة ليلة الحادث, وبعد إتمام العملية قاموا بتقييد الضحية, بعد تكميم فمه.
قام سمير بعد ذلك بإبلاغ الشرطة (حسب قوله) حفاظا على حياة العجوز, وإحتفظ فى البيت بمبلغ مائة جنيه, وتم إخفاء الباقى, وإنتظر حتى تهدأ الأمور, ولكن الآخرين ما كانوا لينتظرون.
سرعان ما إكتشف البوليس خيوط الجريمة نتيجة ثرثرة أحد المشتركين, حاصرت الشرطة المكان الذى يقيم به, أحس بهم سمير, أطفاء نور الغرفة ونظر من خلال الشيش, تأكد أنهم أوقعوا به, أخبر أمه وأخواته البنات وطلب منهم التماسك, صوت أقدامهم الثقيلة تصعد السلم الداخلى للمدرسة, خبطات قوية على الباب, طلب من البنات التوارى وفتح لهم.
كانو أربعة على رأسهم ضابط مباحث القسم, وكلهم مسلحين, كانوا عنيفين فى تحركهم, وضعوا سمير قبالة الحائط رافعا يديه, وقلبوا كل شيئ, كانت الأم واقفة فى وسط الغرفة, تحاول أن تمنع نفسها عن البكاء أو الصراخ, طلب الضابط من سمير أن يستدير, أخبره ا، يعترف أين أخفى النقود فى هدوء, وإلا ستسوء العواقب, نظر سمير فى عيني أمه, ذكر لى سمير أنه فى هذه اللحظة قرر الإعتراف, أخبرنى لو أن الضابط ضربها قلما لإنهارهو وإعترف, والعكس أيضا لو ضربه قلما لإنهارت هى.
طلب من النقيب " أدم" إعطاؤه كلمة شرف, أنه إذا إعترف له بالحقيقة ألا يزج بأحد من أفراد أسرته فى القضية.
بعد أن أعطاه الضابط كلمة الشرف, أخبره أن المبلغ قد أخفته "سناء" أخته بالخزينة فى الحى, وهى فقط التى معها المفتاح, كان موقفا صعبا, قام الضابط بعدة إتصالات بالاسلكى, ثم طلب منه وأخته إصطحابه الى الحى, وبعد أن إستلم النقود, ناقصة المائة جنيه,أخذ معه سميرإلى القسم, ولم يرد إسم أخته فى جميع محاضر التحقيق.
وقفت الأسرة خلف سمير طول الوقت, معتبرين أنه ضحى بنفسه من أجلهم, وتلك هى الحقيقة نسبيا, حكم عليه بعشر سنوات لإتهامه بالسرقة بالإكراه, وإنتحال شخصية ضابط بوليس.
توثقت بيننا العلاقة, كان يواصل دراسته بكلية الحقوق, كانت أسرته تزوره بإنتظام, ويتركون له نقودا دائما فى حساب الكانتين, وبدأت فى الإندماج معه وبعض الجنائيين أصدقاؤه, وكان معظمهم منتسبين للكليات النظرية, منهم "عبد العزيز الناحل" و"عبد الفتاح عواد" و"رمزى الفلسطينى" وآخرين.
بعد أن قررت القيادة السياسية الإفراج عن مجموعتنا, وفى الليلة الأخيرة لى معه فى السجن, قرر ومجموعة من زملائه توديعى بإحتفالية, تم رشوة الحرس للسماح لى بأن أقضى الليلة معهم, كانوا قد أعدوا عشاءا فخما, أحضرته أسرته خصيصا حسب طلبه, مع قطعة من الحشيش وزجاجة خمر هربها رمزى عن طريق "البوسطة" (وهى طريقة للتهريب عبر السور عن طريق حبل طويل يقذف به بشدة), ورغم عدم تعلقى بالخمر أو الحشيش فقد تناولته معهم مجاملة.
أثناء وداعنا فى الصباح, طلب منى سمير أن أفتح الراديو على إذاعة الأسكندرية فى يوم وساعة محددين بعد حوالى إسبوع, وعند سماعى للراديو كانت المذيعة تعلن إهداء الأغنية التالية من سمير والزملاء بالسجن إليّ

Friday, November 07, 2008

هل يحلم فلسطينى أن يصبح رئيسا لدولة إسرائيل؟




فى ظل موجة التفاؤل التى عمت العالم بإنتخاب باراك أوباما لرئاسة أكبر وأقوى دول العالم, بعد ثلاثة قرون من إبقاء الزنوج فى الولايات المتحدة فى الوضع الأدنى, مما حدا بى أن أحلم أيضا فى إمكانية اليوم الذى يحكم فيه إسرائيل رجل فلسطينى حالم أيضا, فما كان بالأمس حلما أصبح اليوم واقعا.
لقد تحرر الزنوج فى أمريكا عبر سلسلة طويلة من الحروب والمآسى الفظيعة من واقع مؤلم كأقنان فى الأرض فى الجنوب وعمال بائسين فى مصانع الصلب فى الشمال, بعد أن جلبوا من أوطانهم الأصلية مقيدين بالسلاسل والأغلال, ليعيشون على فتات سادتهم البيض فى جيتوهات مغلقة, وأوضاع مزرية, حيث لم يكن مسموحا لهم حتى عقود قريبة أن يختلطوا بالبيض فى المدارس والمطاعم ووسائل المواصلات, وحتى كانت لهم مشارب للماء منفصلة.
إن كلمات نيكسون أن" السود سبب كل المشاكل فى أمريكا", وإعلان ريجان بصراحة وقوفه فى مواجهة السود, وحتى قول كلينتون أن على السود أن يتحملوا وحدهم نتيجة أخطائهم, ليس بعيدا, ليأتى وبعد أقل من ثمانى سنوات من حكم كلينتون شاب أسودذى أصول إسلامية, ليقرر أن يحطم هذا التابو ويعلن ترشيح نفسه للرئاسة, قافزا فوق كل القيود, متخطيا كل الأسوار, ليتابع على الملأ رحلة شاقة لإنتزاع ترشيح الحزب الديموقراطى, ومن بعدها الوصول الى البيت الأبيض.
لقد حاولت السيدة كلينتون ومن بعدها الجمهورى مكين تحريك مشاعر العنصرية فى مواجهة الصعود السريع لأوباما, ولكن جاءت تلك الحملة بنتائج عكسية لأن الأغلبية كانت قد حسمت أمرها, ولم يكن الأمريكان تواقون للعودة لهذا الماضى البغيض.
لقد إستطاع شاب من أصول أمريكية مثقف, ومتخرج من أعلى الجامعات الأمريكية, ويملك شخصية كاريزمية طاغية, ويملك رؤيا واضحة ولسان طلق, أن يقلب الطاولة, ويغيرالموازين الداخلية, ويجمع حوله الشباب والنساء والمهمشين والمثقفين والنخبة وقطاعات عريضة أخرى, فى إستكمال لمسيرة الأب الروحى لذلك الطريق, مارتن لوثر كنج , ولتضحيات ستوكلى كارمايكل والكس محمد وآخرين, أقول إستطاع أن يفعلها ويغير وجه أمريكا والعالم.
كما لا يجب أن ننسى الإنقلاب العظيم الذى حدث فى "جنوب إفريقيا" حيث انتقلت السلطة من سيطرة الأقلية البيضاء الى الأغلبية السوداء, وفيما يشبه الحلم يخرج "نيلسون مانديلا" من معتقل قضى فيه أكثر من ست وعشرين عاما, ليصعد خلال شهور الى قمة السلطة, فى مشهد درامى حبس فيه العالم أنفاسه.
منذ إستوطن البيض المنطقة الجنوبية من القارة الأفريقية بعد إكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح, وهم يستخدمون السود خدما وعبيدا لهم, فى أسوأ نظام للفصل العنصرى(أبارتيد) وهى سياسة عزل للسود فى بانتوستانات منفصلة, فى مناطق تتسم بالجدب والعزل, فى أكواخ من الصفيح, ولا يتمتعون بأدنى الحقوق السياسية والإجتماعية.
لقد إستطاع "نيلسون مانديلا" من خلال قيادته لحزب المؤتمر الوطنى الإفريقى أن يوحد السود من خلال برنامج للكفاح السياسى والعسكرى للتحرر الوطنى, وإستطاع رغم سنوات السجن الطويلة أن يلهم الجماهير ويقود نضالها التحررى ليستطيع فى النهاية من تحقيق النصر المؤزر, لترفعه الجماهير فى النهاية الى سدة الحكم.
ورغم إختلاف الهجمة الإستيطانية الشرسة فى فلسطين, ونجاح النظام العنصرى الصهيونى فى فرض وجوده على الأرض الفلسطينية, فإن هناك تشابها لا يخفى بين هذه الأنظمة الثلاث رغم التباين بينها, فنظام عنصرى بالولايات المتحدة إستمر لثلاثة قرون , ليسفر فى النهاية أن ينتصر شاب من الأقلية السوداء( 13%) بالرئاسة, ونظام فى الجنوب الإفريقى تتحكم فيه أقلية من البيض (4%) فى شعب من السود والملونين, إلى نظام إستطاعت فيه أقلية يهوديه بمساعدة الإمبريالية العالمية الإستيلاء على كامل الأرض الفلسطينية, وتفاوض الفلسطينيين على أقل من (22%) من الأرض, ولكن يتواجد داخل الخط الأخضر أقلية فلسطينية تشكل أكثر من (20%) من السكان.
وبالرغم من الصور المتعددة للعنصرية الصهيونية بالداخل الفلسطينى, وإعتبار العرب مواطنين من الدرجة الثالثة بعد اليهود الشرقيين, الا أن العرب يتمتعون ببعض الحقوق التى إنتزعوها خلال مسيرة طويلة من النضال, مثل حرية تكوين الأحزاب, وحق الإقتراع والترشيح, ولهم بالفعل عدد من الأعضاء فى البرلمان الإسرائيلى" الكنيست".
فهل يأتى ذلك اليوم الذى يستطيع فيه شاب فلسطينى يملك الحلم والإرادة والرؤية الثاقبة أن يجسد الحلم ليدفع الأغلبية الإسرائيلية للتخلى عن عنصريتها والإندماج فى إطار وطنى ينتصر للعدل والمساواة والعيش المشترك.
هل يمكن أن يحدث ذلك؟
ربما فالإنجازات الكبيرة تبدأ دائما بأحلام كبيرة!!!
وليس ما حدث فى أمريكا ببعيد

Tuesday, September 02, 2008

ارحل بقى



الحوار المتمدن - العدد: 2392 - 2008 / 9 / 2
أظن أفصح من كدة نصيحة يبقى عيب


بحبك يا ريس

وحبك يا ريس معكنن عليـــــة

مقطعلى قلبى مطلع عنيــــة

سيبونى فى حالى وبيا اللى بيـــــــة

دا كل اللى لية محرم عليـــــة

عشان حاجة واحدةعشــــــانك يا ريس

بحبــــــــــك يا ريس

دى كلمة قالوها زمان من ســـــــــنين

وكل اللى قالها مطـيـن بطـيـن

يا سارق فلوسنايا كاتم نفوسنا

يا واكل عرقنا برجلك دايسنا

ولســـــه بحبك واحب اللى حبك

وباحلف هاحبك واحب اللى جابك

فى يوم اغبر علينا ياريس مبارك

يا ريس عليــــك البــــلدلابنـــك

وابنــــه وولد الولد

سوزانك سوزانا

جمالك جمالنا

علائك علائنا

وبكرة وبعده وطول الامد

غبــــاءك يا ريس ملوش حل خالص

وسايق ف الهبل وكلامك هجايص

ولولاك يا ريس مكنشى دا حالى

وحال كل مصري مدروخ ولايـص

قالوا العيشة حرة وهي العيشة مرة

ومش مـــر عادي

دا صبرك يا ريس ممرر بلادى

واسعار بترفع مأتنزلش مرة

وباين علينا هنطلع لبرة

رغيفك يا ريس بيصغر ما يكبر

وسعره يا ريس بيرفع ماينزل

سألنا دا ماله قالولنا الحديد

وايه العلاقة بسعره الجديد

تكونش يا ريس لغيت الدقيق

وبتطحن بداله برادة حديد؟

مهو انت اللى عارف وسامع وشايف

جمالك قشــطنا

وعز اللى خاننا وولـــع بلدنا برفع الحديد

ماتصحى ياريس وصحى البلد

هنبقى يا ريس كمالة عدد

ف وسط العوالم وشعبى اللى هايم

وكبته اللى دايم

وقرشه اللى عايم

هنبقى يا ريس كمالة عدد

واقولك واعيدلك لانى بحبك

نصيحة فصيحة نصيحة مريحة

لبلدى وبلدك ماترحل يا ريس

ليه دايما متيس

ودايما مهيس

مترحل بقى وخد لي ف وشك جمالك ..

أنامش باغشك علائك .. سوزانك

شريفك .. سرورك نظيفك ..كمالك

وعزك .. دا خانك

خدهم وانصرفوا أشـــتاتآ أشتوت

خدهم وانصرفوا لحسن حانموت

ارحل بقى ارحل بقى

مترحل بقى

29/8/2008

Saturday, August 02, 2008

حسن ومرقص...وقبول الآخر



لقد كانت جرأة من الكاتب الساخر "يوسف معاطى" أن يدخل هذه المنطقة المحرمة, معلقا الجرس فى رقبة القط, وأن يمد كلتا يديه داخل عش الدبابير, ليضغط على الجرح محاولا إخراج القيح والعفن منه, ليكشفنا جميعا عرايا حتى من ورقة التوت, وأننا جميعا خطاؤون فلا يستطيع أحد أن يمسك بحجر, وولنكتشف أننا ابتعدنا كثيرا عن ذلك الزمن الجميل المتسامح, وجرت في النهر مياه كثيرة.
كذلك كان لقاء فنانين بحجم عادل إمام وعمر الشريف فى عمل مشترك ضد التطرف والإرهاب جدير بالترحيب والإحتفاء, خاصة وأن هذا العمل يتوج مسيرة طويلة للفنان عادل إمام من عمل أفلام تواجه الفكر التكفيرى, والتيارات الأصولية مما جعل حياته شخصيا مستهدفتا من قبلهم.
لقد بدأت مشاكل الفيلم منذ كان ورقا, وخرجت شائعات كثيرة حوله, منها ما قيل حول تدخل الكنيسة والبابا فى سيناريو الفيلم, الى إتهام عادل إمام بالتحول إلى الدين المسيحى, والدعوة إلى مقاطعة الفيلم وجميع أعماله, ومن حديث حول إنسحاب المخرج شريف عرفة من أسرة الفيلم لخلاف حول السيناريو.
لقد أراد الكاتب"يوسف معاطى" والمنتج"عماد أديب" والنجم "عادل إمام" أن يوصلوا رسالة قوية مضمونها أنه توجد فى العمق توترات حادة, وأحقاد متبادلة, وشائعات حول رغبة كل طائفة فى السيطرة ومحو الطائفة الأخرى, وأنه لو لم نتدارك ذلك بسرعة فسينفجر الوطن ملقيا حممه على الجميع, يظهر ذلك فى الإتهامات المتبادلة كعبارات (لا يوجد متسول مسيحى واحد) و (اللى في القلب فى القلب يا كنيسة)
والفيلم يدور حول فكرة محورية هى التطرف الدينى على الجانبين, مما يدفع بأجهزة الأمن إلى تهريب رجل دين مسيحى"عادل إمام" بإسم مستعار لشيخ مسلم (حسن العطار) مع إطلاق أسماء إسلامية لزوجته"لبلبة" وإبنه"محمد عادل امام" إلى محافظة المنيا حماية له من جماعة مسيحية متطرفة, وكذلك تهريب رجل مسلم صوفى"عمر الشريف" وأسرته الفنانتان هناء الشوربجى وشيرين عادل, إلى نفس المنطقة بإسم رجل مسيحى يدعى (مرقص) لتأمين حياته من جماعة إسلامية متطرفة, ومن هنا جاء إسم الفيلم "حسن ومرقص", لتدفع بهم الظروف إلى السكنى متجاورين فى بيت واحد, لتجتهد كلا الأسرتين فى إخفاء هويتهما الأصلية, ومحاولة التقرب من الأسرة الأخرى ظنا منها أن الآخر على نفس دينه, ومن هنا تبنى تيمة الفيلم الأساسية , وتنوع المشاهد الكوميدية.
بيد أن التناول الذى جرى من سيناريو وإخراج عليه كثير من الملاحظات, فقد عاب الفيلم مباشرته الشديدة وتقريريته حول واقع الإحتقان الطائفى دون بذل عناء التأصيل للجذور التاريخية والاجتماعية والأمنية لهذا الصراع, وجاءت المعالجة بشكل سطحى وساخر, ولم يظهر طوال العرض أى مظهر للتقارب الإنسانى أو الإجتماعى بين الطائفتين سوى بين شخصين أو أسرتين يعتقد كل منهما أن الآخر على نفس دينه, وفى لحظة أن يتم الكشف عن الحقيقة يظهر كل منهما أسوأ ما فيه تجاه الآخر, رغم المقدمة الطويلة عن أنهما شخصين مختلفان فى فكرهما عن الآخرين, وأنهما مطاردان بسبب هذا الإختلاف, لولا حدوث كارثة طائفية مفتعلة ليحترق البيت فيعود التقارب الإنسانى بينهم, ليثار تساؤل بسيط, ماذا لو لم يحدث هذا الحريق, أو هذا الشجار المفتعل, كيف كان يمكن أن ينتهى الفيلم, هذا بينما الواقع المعاش رغم الإستقطاب الحادث , ما زال ثريا بالكثير من العلاقات الإنسانية الجميلة.
حقا لقد أشار الفيلم فى بعض ألفاظه إلى ذكريات قديمة عن التسامح, وأن العلاقات الإنسانية لم تكن تهتم بدين الآخر, ولم تكن أفلام الأبيض والأسود منذ "فاطمة وماريكا وراشيل 1949"و"حسن ومرقص وكوهين 1953" إلا تعبيرا عن هذه الروح, فقد أفسد صعود الفكر الأصولى المتشدد وسيطرة التيار الوهابى المتجمد, لأسباب ليس هذا مجال شرحها, لقد سببت أخطاء تاريخية فى خروج اليهود من مصر خصوصا بعد عام 1956 , وسبب التشدد الإسلامى فى تقليص أعداد المسيحيين بالمنطقة بشكل حاد, حتى في تلك المناطق التى ولد وعاش فيها المسيح كبيت لحم, وحتى فى لبنان رمز التعايش بالمنطقة يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل أن أعداد المسيحيين إنخفضت به من أربعين إلى عشرين مليونا, لقد سقط إسم كوهين من الفيلم القديم, ويخشى الكثيرون أن يسقط إسم مرقص أيضا بعد ستين سنة أخرى.
أذكر واقعة شخصية فى بدايات السبعينيات من القرن الماضى, حيث كان طلبة الجامعة المغتربين بالأسكندرية يسكنون فى غرفة مفروشة بإحدى الشقق التى تقيم بها عائلة سكندرية, حدث أن أقمت مع أسرة مسيحية, مع جد وجدة مسيحيين, يأتى لزيارتهم على فترات متباعدة الأبناء والأحفاد, كنت أعيش معهم فى ود وسلام, حدث فى أحد أعيادهم مع إنتهاء صوم العدرا (كما ينطقها المصريين) أن الجدة أعدت طعاما فخما وكثيرا لأولادها, وعندما تأخروا أصرت على وأصدقائى أن نحتفل معهم بالوليمة, هكذا كان الحال فى تلك الأيام ولكن الوضع تغير كثيرا للأسف.
من الكلمات القليلة والمؤثرة فى الفيلم ذكر عادل إمام لرحلة العائلة المقدسة إلى مصر عندما لجأت السيدة مريم وطفلها يسوع بصحبة يوسف النجار وطوافهم بمعظم أنحاء مصر وصولا إلى دير المحرق بأسيوط حيث جاءتهم البشارة بالعودة الى فلسطين.
على كل الأحوال, لن نبكى على اللبن المسكوب, ولكنها مجرد أمثلة على زمن مضى, وتاريخ مضيئ, ومثال ذلك الوفد حزب الأغلبية الشعبية التقليدى, وشعاره المعروف"الدين لله والوطن للجميع"حيث مثل المسيحيين فى بعض مراحله اغلبية أعضاء الهيأة الوفدية, مثل سينوت حنا وويصا واصف ومكرم عبيد وإبراهيم فرج وغيرهم كثيرون, ولم يكن لذلك أى حساسية لدى الجماهيرالمسلمة.
أضف إلى أن السيناريو فى محاولة مغازلة قوى التشدد الإسلامى حاول الموازنة بين التطرف الإسلامى والمسيحى من خلال الهجوم المتبادل, والعنف المتبادل, ولكن الجميع يعلم يقينا أن عنف الجماعات الإسلامية هو أساس المشكلة كلها, وليست أحداث أبوفانا والجواهرجية ومحرم بك ببعيدة, كما أن التصفيات الجسدية هى صفة تخص الجماعات السلفية الجهادية أساسا, وفكرة تهريب رجل دين مسيحى وإلباسه زى رجل دين إسلامى من قبل الجهاز الأمنى خوفا على حياته هى فكرة ساذجة الغرض منها تكملة المشهد الكوميدى.
على أن أكثر المناطق ضعفا فى الفيلم هو الإخراج, فواضح أن المخرج الشاب رامى إمام رغم إمكانياته الواعدة فى عالم الإخراج إلا أنه لم يزل غضا لتحمل فيلم بهذه الضخامة والحساسية , و هذه النوعية من الأفلام فى حاجة إلى عمق سياسى ومهارات خاصة, مما أدى به الى الإكثار من المشاهد الكوميدية على حساب العمل الفنى, بالإضافة إلى وجود جانب من التحيز فى طول المشاهد الخاصة بوالده على حساب مشاهد النجم عمر الشريف.
ولعب كاست الفيلم دوره بشكل جيد, ولكن كان الفنان عمر الشريف متميزا بأدائه الهادئ والراقى والمعبر.
كما أجاد عادل إمام فى لعب دور رجل الدين المسيحى وإن بالغ فى الأدوار الكوميدية كما توقعنا منه ذلك, كذلك كان دور محمد إمام فرصة لإثبات وجوده لولا محاولته تقليد والده, وأدت الشابة شيرين عادل دورها بتميز.
أيضا كانت موسيقى ياسرعبد الرحمن علامة إيجابية مؤثرة فى الفيلم وخصوصا فى مشهد النهاية.
وإذا كان الفيلم قد طرح أسئلة أكثر مما قدم من حلول, وأظهر فى مجمله البون الشائع بين الطرفين, فإن موقف الأجيال الجديدة يعد إرهاصة وأمل فى المستقبل, كما ظهر فى موقف جرجس ومريم فى نهاية الفيلم بالقول هل تتغير القلوب بمجرد تغيير الأسماء؟
على أن أحد الأسئلة الكبرى التى لم يجيب الفيلم عنها هو ما مصير العلاقة بين جرجس ومريم؟ وهل يمكن أن تستمر بعد إنكشاف السر ومعرفة الوضع الدينى الحقيقى للطرفين؟ أشك كثيرا فى إمكانية إستمرارها فى الظروف الحالية, لقد أدى إرتداء عادل امام للصليب فى الفيلم الى كل هذه الحملة الشرسة ضده, فماذا كان ليحدث لو قرر تغيير دينه ؟

Sunday, June 29, 2008

الموتى يعلمون الأحياء




كان يومها الأول فى الدراسة الأكاديمية بالكلية, ترددت قليلا قبل أن تدخل القاعة الكبيرة التى كتب أعلى بابها بالعربية وحروف أخرى لم تتبينها"المشرحة التعليمية", صدمتها رائحة حادة نفاّذة بالداخل, جعلت عيناها تدمعان, لا تذكر أنها إشتمت مثل هذه الرائحة من قبل, البياض يغلب على المكان, الحوائط بيضاء, معاطف الطلبة, الأغطية, الطاولات الرخامية.
القاعة ممتلئة, الضجة شديدة, عشرات الرؤوس تتزاحم حول الطاولات الموزعة بالقاعة, حاولت تبين وجه أى من زملاء الدفعة, شعرت بالدوار من الرائحة والضجة, قررت الإنسحاب من القاعة, كادت تصطدم به على الباب, بوسامته التقليدية, ومعطفه الأبيض على كتفه, حيته فإستوقفها, إنتحى بها جانبا وبدأ يتكلم بصوت خفيض لا تكاد تسمعه, كانت ذهنها مشتتا, لم تستطع متابعته, إلتقطت كلمات عن بريخت والمسرح الجامعى والمسابقة, إعتذرت منه بصداع مفاجيء, وسارت مسرعة الى البيت.
فى اليوم التالى إستيقظت معتلة المزاج, تناولت كوبا من القهوة, وإرتدت ملابسها على عجل, فى الطريق الى الجامعة لفحتها نسائم خريفية رقيقة, أعادت لها بعض الإنتعاش, أصرّت أن تكون أقوى من الأمس, قررت بين نفسها عدم حضور المحاضرات النظرية, دلفت مسرعة الى باب المشرحة, كان الزحام أقل من الأمس, لكن نفس الرائحة تستفز خياشيمها, قاومت تلك الرائحة, تعمدت عدم التطلع حولها كثيرا, لمحته مع زميل آخر وطالبتين حول إحدى الطاولات الرخامية, إنضمت اليهم فى صمت, وفتحت كتابها فى هدوء.
بدأ أحدهم القراءة, بينما الآخر يحرك المشرط على الجثة ببطأ, شردت وهى تنظر الى الرأس بعمق, العينان الغائرتين,لون الجلد المائل الى السمرة, الشعر المجدول بعناية خلف الرأس, والأسنان التى تبدو خلف الشفتين المفتوحتين, أليست تشبه المرحومة, بالرغم من جفاف الجلد, والعينين, وعظام الوجنتين والفك البارز, سبحان الله, نعم إنها صورة مطابقة لها, كل هذا الشبه.
شعرت بجفاف فى حلقها, إنتابتها غصّة, أحست بوخزات حادة عندما إقترب المشرط من الجلد, لم تشعر الاّ بعينيها تدوران فى حدقتيهما, وروحها تنسحب منها, أمسكت بيديها بشدة فى الطاولة الرخامية الا تسقط , رويدا بدأت تستعيد توازنها.
تفقدت بعينيها المكان, دارت بهما على الإضاءة القوية بالسقف, تحركتا الى الحوائط, ثبتت عينيها على لوحة رخامية كبيرة بألوان صفراء باهتة محفورعليها بضع كلمات بالعربية واللاتينية" الموتى يعلمون الأحياء".
شردت بذهنها بعيدا, إلى أيام طفولتها الأولى, عندما كانت تفرد ذراعيها لتحتضنها فتنغرس فى كتلة هائلة من الشحم الناعم الملمس, وتفتح صندوقها السحرى ببضع قطع من "سكر البنات", تحكى لها حكايات الشاطر حسن وشمس البدور, ملقية بها فى بحر الخيال السحرى الجميل, وفجأة ها هى صورة مطابقة لها على الطاولة الرخامية الملساء.
فى الطريق راجعة لم تستطع أن تنزع عنها هذه الصورة, لقد شغلت ملامحها بؤرة التفكير, كادت سيارة مسرعة أن تدهمها لولا لطف الله, طرقت الباب خفيفا, متوقعة أن تكون من تفتح, خاب ظنها, ما إن دخلت غرفتها حتى إستلقت بملابسها على السرير, وإنتابتها نوبة عميقة من البكاء.
لم تجرؤ أن تمسك المشرط بين أصابعها وتغمده فى الجلد اليابس, كانت تعمد الى إدارة وجهها بعيدا أثناء الشرح, لم تلتقط أذناها مما يقال الاّ القليل, كانت تخفى وجهها فى وجهه, لأول مرة ترى عينيه, كم هما صافيتين, عادت لتدس عينيها فى الكتاب, أحست كم هى مشوشة.
رأتها فى الحلم, فرحة متهللة, ضمتها الى صدرها فى طيبة وحنو, كعادتها فردت خدها لتتلقى منها قبلة, سكبت قبلتها رطبة, تلقتها بإرتياح وشوق, يدها الملساء البضة تربت عليها, قبل أن يفترقا همست لها: لا تترددى فالكل فى إنتظارك.
عاد إليها الهدوء, أقبلت على دروس التشريح بحماس, أحست كأنما تساعدها, كم كانت فى حاجة الى هذا الدعم المعنوى, حتى عصام بدا أكثر ألقا, أصبحت تحب ثرثرته, لم تعد تضايقها رائحته, عادت الى المكوث بجواره كثيرا, يقضيان أغلب الوقت فى الكافيتريا, أو فى مدخل المدرج الكبيرحيث كان ينصب مجلة الحائط الخاصة به.
بينما يسيران على الكورنيش, تسللت يده لتمسك يدها, بخجل أعطته أطراف أصابعها, أحست ببرودة أصابعه, رويدا إحتوت قبضته الكبيرة يدها, غمر يدها دفء, بينما لم تنقطع ثرثرته, عالم المسرح يتملكه, مجنون به هو, عندما يبدأ الحديث عن المسرح فإنه لا يستطيع أن يتوقف.
تعودت أن تراها فى اليوم مرتين, صباحا فى المشرحة, وليلا أثناء نومها, تعايشت مع الحدثين, أصبحت تنتظرها فى الموعد, لم تكن تستطيع تحديد سبب إنتعاشها كل صباح, هل لإنها ستراها؟, أم لأنها ستراه, تعودت عليهما معا.
بينما تخطو مسرعة فى الطريق الى الكلية, ما زال الصباح نديا , بعض الهواء البارد يلفح بشرتها, فجأة إستوقفتها يد مرتعشة تمتد إليها, نظرت إليها, لم تصدق, أغمضت عينيها وفتحتها عدة مرات, هزّت رأسها غير مصدقة .
تعمّدت التوقف , ببطأ تحركت يدها لتفتح الحقيبة, أخرجت جنيها, عينها عليها لم تسقطها, ياإلهى, , إنها هى, جدتها مرّة ثالثة, ما هذا الذى يحدث, إنها هى, وجهها, عينيها , شعرها, كل شيء , كيف تفسر ذلك, لا بد أن بها مس من جنون.
تغير مزاجها, إرتبكت خطواتها, دخلت من الباب, تمنت ألاّ تجد الجثة مكانها, تطلعت من بعيد إلى الطاولة الرخامية فى الركن, ها هى ممددة فى مكانها, أسرعت بالخروج.
فى الشارع أخذت نفسا عميقا, صاعدة فى الطريق فى إتجاه الشمال, نسائم الصباح تلفح وجهها, رائحة البحر المشبعة باليود تنعش خياشيمها, سارت على الكورنيش قليلا, أصوات النوارس تملأ المكان, على طاولة رخامية جلست, يمتد بصرها إلى الزرقة اللا متناهية.

Wednesday, June 25, 2008

آخر أعمال الشاعر..محمود درويش



"سقط القطار عن الخريطة




:عُشْبٌ، هواء يابسٌ، شَوْكٌ، وصَبَّارٌ على سِكَك الحديد. هناك شَكْلُ الشيء في عَبَثيَّة اللاّ شكل يمضغ ظلَّهُ...عَدَمٌ هناك مُوَثَّقٌ... ومُطَوَّقٌ بنقيضهِ ويمامتان تُحَلِّقانِ على سَقيفة غرفة مهجورة عند المحطّةِ والمحطّةُ مثل وَشْم ذاب في جسد المكانِ هناك أَيضاً سَرْوتان نحيلتان كإبرتين طويلتينِ تُطَرِّزان سحابةً صفراءَ ليمونيَّةً
وهناك سائحةٌ تُصَوِّر مَشْهَديْنِ: الأوَّلّ - الشمس التي افترشتْ سرير البحرِ والثاني - خُلُوَّ المقعد الخشبيّ من كيس المسافرِ
يَضْجَرُ الذَهَبُ السماويّ المُنَافقُ من صلابَتِه
وقفتُ على المحطَّة... لا لأنتظر القطارَ ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليّات شيءٍ ما بعيدٍ، بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكان كجرّةٍ خزفيّة،
ومتى وُلدت وأَين عشت، وكيف هاجرتِ الطيورُ إلى الجنوب أو الشمال. ألا تزال بَقِيَّتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ على فَسَاد الواقعيّ؟ ألا تزال غزالتي حبلى؟
كبرنا. كم كبرنا، والطريق إلى السماء طويلة
كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من بلاد الشام حتى مصر. كان صفيرُهُ يُخْفي ثُغاءَ الماعزِ المبحوحَ عن نَهَمِ الذئاب، كأنه وقتٌ خرافيّ لتدريب الذئاب على صداقتنا. وكان دخانه يعلو على نار الثرى المتفتّحات الطالعات من الطبيعة كالشجيرات/
الحياة بداهةٌ. وبيوتنا كقلوبنا مفتوحةُ الأبواب
كُنَّا طيِّبين وسُذَّجاً. قلنا: البلادُ بلادُنا قَلْبُ الخريطة لن تصاب بأيِّ داء خارجيّ، والسماءُ كريمةٌ معنا. ولا نتكلَّم الفصحى معاً إلاَّ لماماً: في مواعيد الصلاة، وفي ليالي القَدْر. حاضِرُنا يُسامِرُنا: "معاً نحيا". وماضينا يُسَلّينا "إذا احْتَجْتُمْ إليَّ رجعتُ". كنا طيّبين وحالمين فلم نر الغَدَ يسرقُ الماضي - طريدَتَهُ، ويرحلُ
كان حاضرنا يُربًّي القمح واليقطين قبل هنيهة، ويرقِّصُ الوادي
وقفتُ على المحطَّة في الغروب: أَلا تزال هنالك امرأتان في امرأة تُلمِّع فَخْذَها بالبرق؟ أسطورِيَّتان - عَدُوَّتان - صديقتان، وتوأمان على سطوح الريح. واحدةٌ تُغَازِلُني. وثانيةٌ تُقَاتلُني؟ وهل كَسَرَ الدمُ المسفوكُ سيفاً واحداً لأقول: إنَّ إلهتي الأُولى معي؟
صَدَّقْتُ أُغنيتي القديمةَ كي أُكذِّب واقعي
كان القطار سفينةً بريَّةً ترسو... وتحملنا إلى مُدُن الخيال الواقعيّةِ كلما احتجنا إلى اللعب البريء مع المصائر. للنوافذ في القطار مَكَانةُ السحريِّ في العاديِّ: يركضُ كل شيء. تركضُ الأشجارُ والأفكارُ والأمواجُ والأبراجُ تركض خلفنا. وروائحُ الليمون تركض. والهواءُ وسائر الأشياء تركضُ، والحنين إلى بعيد غامضٍ، والقلب يركضُ
كُلُّ شيء كان مختلفاً ومؤتلفاً
وقفتُ على المحطّة. كنتُ مهجوراً كغرفة حارس الأوقات في تلك المحطّة. كنتُ منهوباً يُطِلُّ على خزائنه ويسأل نفسه: هل كان ذاك الحقلُ/ ذاك الكِنْزُ لي؟ هل كان هذا اللازورديُّ المبلَّلُ بالرطوبة والندى الَليْليِّ لي؟ هل كُنْتُ في يوم من الأيام تلميذَ الفراشة في الهشاشة والجسارة تارةً، وزميلَها في الاستعارة تارةً؟ هل كُنْتُ في يوم من الأيام لي؟ هل تمرض الذكرى معي وتصاب بالحُمَّى؟
أَرى أَثَري على حجر، فأحسب أَنه قَمَري وأُنشد واقفاً
طَلَليَّةٌ أُخرى وأُهلك ذكرياتي في الوقوف على المحطّة. لا أُحبُّ الآن هذا العشب، هذا اليابسَ المنسيَّ، هذا اليائسَ العَبَثيَّ، يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقيّ. ولا أُحبُّ الأقحوان على قبور الأنبياءِ. ولا أُحبّ خلاص ذاتي بالمجاز، ولو أرادَتْني الكمنجةُ أن أكون صدىً لذاتي. لا أُحبّ سوى الرجوع إلى حياتي، كي تكون نهايتي سرديَّةً لبدايتي
كدويّ أجراسٍ، هنا انكسر الزمان
وقفتُ في الستين من جرحي. وقفت على المحطّة، لا لأنتظر القطار ولا هُتَاف العائدين من الجنوب إلى السنابل، بل لأحفظ ساحل الزيتون والليمون في تاريخ خارطتي. "أهذا... كل هذا للغياب" وما تبقَّى من فُتات الغيب لي؟ هل مرَّ بي شبحي ولوَّح من بعيد واختفى، وسألتُهُ: هل كُلَّما ابتسم الغريبُ لنا وَحيَّانا ذبحنا للغريب غزالةً؟
وقع الصدى منِّي ككوز صنوبرٍ
لا لشيء يرشدني إلى نفسي سوى حدسي. تبيض يمامتان شريدتان رسائلَ المنفى على كتفيّ، ثم تحلِّقان على ارتفاع شاحب. وتمرُّ سائحة وتسألني: أَيمكن أَن أُصوِّركَ احتراماً للحقيقة؟ قُلْتُ: ما المعنى؟ فقالت لي: أَيمكن أن أُصَوِّركَ امتداداً للطبيعةِ؟ قُلْتُ: يمكن... كل شيء ممكنٌ، فعمي مساءً، واتركيني الآن كي أخلو إلى الموت... ونفسي!
للحقيقة، هـهنا، وَجْهٌ وحيدٌ واحدٌ ولذا... سأُنشد
أنتَ أنتَ ولو خسرتَ. أنا وأنت اثنان في الماضي: وفي الغد واحد. مرَّ القطار ولم نَكن يَقِظَيْن، فانهضْ كاملاً متفائلاً، لا تنتظر أحداً سواك هنا. هنا سقط القطارُ عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحليّ. وشبَّت النيران في قلب الخريطة، ثم أَطفأها الشتاءُ وقد تأخّر. كم كبرنا كم كبرنا قبل عودتنا إلى أسمائنا الأولى!
أَقول لمن يراني عبر منظارٍ على بُرْجٍ الحراسةِ: لا أراكَ، ولا أراكَ
أرى مكاني كُلَّه حولي. أَراني في المكان بكُلِّ أَعضائي وأسمائي. أرى شَجَرَ النخيل يُنَقِّح الفصحى من الأخطاء في لغتي. أرى عادات زهر اللوز في تدريب أُغنيتي على فَرَحٍ فجائيّ. أَرى أَثري وأَتبعه. أَرى ظلِّي وأَرفعه من الوادي بملقط شَعْر كَنْعَانيّةٍ ثَكْلى. أَرى ما لا يُرَى من جاذبيَّة ما يَسيل من الجمال الكامل المتكامل الكُلِّيِّ في أَبد التلال. ولا أَرى قنّاصتي.
ضيفاً على نفسي أَحلُّ
هُناكَ موتى يوقدون النار حول قبورهم. وهناك أَحياء يُعدُّونَ العشاء لضيفهم. وهناك ما يكفي من الكلمات كي يعلو المجازُ على الوقائع. كُلَّما اغتمَّ المكانُ أَضاءَهُ قمر نُحَاسيّ ووسَّعه. أَنا ضَيْفٌ على نفسي. ستُحْرجُني ضيافتُها وتُبْهجُني، فأشرق بالكلام وتشرقُ الكلمات بالدمع العصيّ. ويشرب الموتى مع الأحياء نعناع الخلود، ولا يطيلون الحديث عن القيامةِ
لا قطار هناك. لا أَحد سينتظر القطار
بلادنا قَلْبُ الخريطة. قلبها المثقوبُ مثل القِرْش في سوق الحديد، وآخر الرُكَّاب من إحدى جهات الشام حتى مصر لم يرجع ليدفع أُجْرَةَ القنَّاص عن عَمَلٍ إضافيّ - كما يتوقع الغرباءُ. لم يرجع ولم يحمل شهادة موتِهِ وحياتِهِ مَعَهُ لكي يتبيَّن الفُقَهاءُ في علم القيامة أَين موقعه من الفردوس. كم كنا ملائكة وحمقى حين صَدَّقْنا البيارق والخيول، وحين آمنَّا بأن جناح نسر سوف يرفعنا إلى الأعلى!
سمائي فكرةٌ. والأرضُ منفايَ الـمُفَضَّل
كُلُّ ما في الأمر أَني لا أُصدِّق غير حدسي. للبراهين الحوار المستحيلُ. لقصَّة التكوين تأويلُ الفلاسفة الطويلُ. لفكرتي عن عالمي خَلَلٌ يُسَبِّبهُ الرحيلُ. لجرحيَ الأبديّ محكمة بلا قاض حياديّ. يقول لي القضاة المنهكون من الحقيقة: كُلُّ ما في الأمر أَن حوادث الطرقات أَمْرٌ شائع. سقط القطار عن الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي، وهذا لم يكن غَزْواً!
ولكني أَقول: وكُلّ ما في الأمر أَني لا أُصدِّق غير حدسي
لم أَزل حيّا

Monday, June 02, 2008

فى الذكرى الثانية لرحيل نبيل الهلالى


القديس النبيل

ما كان أحوجنا اليك هذه الأيام, لم نكن فى حاجة الى اللجوء اليك فى المدلهمات والنوازل, كنت دائما حاضرا, بإبتسامتك الوادعة كطفل, وبثقتك وهدوئك الراسخين, لم تسمع يوما عن قضية عمالية أو فلاحية أو وطنية إلا كنت أول الحضور, قبل أن نفكر فيك كنت تفكر فينا, تدخل الى قاعة المحكمة بجسدك النحيل الذى هدّته السجون والمعتقلات, ونظارتك العتيقة, وإبتسامتك الصافية, وصوتك الذى لم نكن نسمعه الا همسا فى المناقشات, فإذا به صوتا جهوريا عملاقا فى الدفاع عن المظلومين, أين أنت الآن يا أبو زيد, كم نحن فى حاجة اليك.
كنت بيننا كفرد منا, بل كنت دائما تعطينا الإحساس بأنك فى حاجة الينا, كنا عندما نمارس الفعل الثورى نعتمد على أن ورائنا ظهرا قويا يحمينا, رجل بحجم كتيبة كاملة, كنت تسأل عنا فردا فردا, وكأننا أصدقاء قدامى, تعطينا الإحساس بالأمان, والقوة, والثقة فى المستقبل, لم تكن فى مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها قضية طلابية أو عمالية أو فلاحية إلا كنت تتصدى بكل كيانك وروحك دفاعا عن الوطن.
لقد عرفت القوى السياسية جميعها فى مصر "أحمد نبيل الهلالى" كمدافع صلب فى القضايا الوطنية فى قاعات المحاكم, ولكن لم يكن الجميع يدركون دوره السياسى العظيم فى إطار الحركة اليسارية المصرية, فقد بدأ نضاله السياسى مبكرا منذ عام 1948 فى تنظيم الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى"حدتو" أهم وأكبر التنظيمات الشيوعية المصرية فى هذا التاريخ والتى إتخذت هذا الإسم بعد اتحادها مع "منظمة الشرارة" فى عام 1947, وذلك فى بداية إلتحاقه بكلية الحقوق, وظل طوال تاريخه الحافل متمسكا بأجمل وأنبل ما فى هذا الفكر, منحازا للفقراء والكادحين, مضحيا بحياة القصور والسرايات.
ولد" أحمد نبيل الهلالى" فى السابع من أغسطس للعام 1928بمدينة أسيوط وأسلم الروح فى 16 يونيو عام 2006, وبين رحلة الميلاد والموت حياة حافلة بالنضال والسجون والعمل السياسى والروح الكفاحية بين حركة حدتو والحزب الشيوعى المصرى الموحد1958, والحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات بعد دفاعه السياسى فى 15 يناير 1959, ورفضه لحل الحزب فى 14 مارس 1965, ثم إعادة بناء الحزب مع عدد قليل من قياداته التاريخية على رأسهم صديق عمره ورفيق كفاحه "زكى مراد" والذى لقى حتفه فى حادث سيارة غامض, وليستمر الهلالى فى قيادة الحزب بذات الروح النضالية العالية, بعد أن كان قد تخلى نهائيا عن ثروته من ميراث والده "الباشا" آخر رئيس للوزراء بمصر قبل الثورة, ووزع تلك الثروة على الفلاحين الذين كانوا أجراء للأرض.
وعندما أطلق رفاقه لقب "القديس" عليه, كان بسبب زهده وإختياره حياة بسيطة ومتقشفة, وصلابته الشديدة فى الفاع عما آمن به, وليس أدل على ذلك من تكرار دفاعه السياسى عن التنظيم الذى ينتمى اليه, حيث أن الدفاع السياسى يعنى أن يعلن المتهم عن إنتمائه العقائدى, وأن يطرح فى قاعة المحكمة دفاعه عن هذا المبدأ, متحملا تبعات هذا الموقف, وما يترتب عليه من تحدى للسلطة, ومواجهة لعقابها.
حدث هذا مع الراحل العظيم أكثر من مرة, الأولى فيما عرف بقضية الشيوعيين الكبري، أمام محكمة المجلس العسكرى برئاسة الفريق هلال عبدالله هلال فى 15 أغسطس 1959 وأمام طوفان التعذيب والتهديد ليقدم دفاعا سياسيا عما يراه الشيوعيون لوطنهم، ويجمع رفاقه أجمعون أن دفاع نبيل كان مثالا رائعا للمناضل الثورى وأن هذا الدفاع كان من أروع ما قدم فى هذه القضية.
المرة الثانية عندما قدم مرافعة قانونية وسياسية فى قضية الحزب الشيوعي المصري عام 1981
والتى كان المتهم الرئيسى فيها, وصدرت هذه المرافعة فيما بعد فى كتاب بعنوان" حرية الفكر والعقيدة , تلك هى القضية", دفاعا عن حرية الفكروالإنتماء, وعن مبادئ وأفكار وخط الحزب.وإختتم نبيل الهلالى مرافعته بالقول (إسمحوا لي أن أختم مرافعتي بأن أعبر عن ثقتي الكاملة في أن ترزية القضايا مهما تفننوا في الاختلاق ومهما أتقنوا فنون التلفيق سيكونوا عاجزين لا محالة عن تضليل العدالة؛ لأن العدالة تظل لها عينها الساهرة، وهي دوما قادرة على انتشال الحقيقة من تحت ركام الأباطيل..).
وأذكر هنا واقعة طريفة حدثت أثناء التحقيق فى هذه القضية, عندما كانت النيابة تحقق فيها, وبسؤال أحد المتهمين (ولم يكن عضوا بالحزب) ما إذا كان يعرف المدعو "نبيل الهلالى" فأجاب مازحا أنه لا يعرف سوى "أبو زيد الهلالى", وكانت المشكلة أن الإسم الحركى لنبيل الهلالى هو أبوزيد.
لم تكن لتملك الا أن تحبه, وأن تحترمه مهما إختلفت معه, لذا فقد إختاره زملائه المحامين لعضوية مجلس النقابة لمدة 22عاما متتالية, وذلك فى الفترة من 1968 إلى 1992, وقد كان ديدنه دائما, وبوصلته فى الحياة هو حرية الرأى, والدفاع دائما عن أصحاب الفكر حتى لو إختلفوا معه, أو كفّروه كما حدث كثيرا, لقد دافع عن المتهمين فى قضايا التكفير والهجرة وقضايا الجهاد والإخوان المسلمين وجميع قضهيا الرأى والفكر فى مصر وأدى به ذلك الى الإختلاف مع رفاقه وأصحاب مسيرته, وهو ما حدث بالفعل حين إنفصل عنهم عند هذه النقطة تحديدا, منشقا عن الحزب الأم, مشكلا "حزب الشعب الإشتراكى" فى عام 1987 ليستمر فى التعايش مع مبادئه فى الدفاع عن المختلفين معه فى الرأى من الجماعات الإسلامية المتطرفة والإخوان المسلمين تحديدا, وكل صاحب رأى أو فكر.
لذا فلم يكن من المستغرب أن يودعه الجميع بكل المحبة والتقدير, فقد ضمت جنازته جميع ألوان الطيف السياسى فى مصر, من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين, كان فى وداعه التروتسكيين والشيوعيين والناصريين والليبراليين والإخوان والمتشددين دينيا, وأيضا ممثلين للحزب الوطنى الحاكم.
وقد كان الفقيد يملك روح دعابة متميزة, يفلسف فيها الظروف القاسية للتخفيف عن الرفاق فى محنتهم, يذكر أنه فى الأوردى وتحت طائلة الجوع , كون فريقا من الرفاق ينحتون القشر المتبقى من البطيخ وأطلق عليهم إسم"فريق النحت الذهبى", وأنشأ كذلك بنفس السجن مجلة هوائية يومية ,ضمّنها موضوعات سياسية وثقافية وفنية وفكاهية, وشارك فيها كل المساجين.
هكذا انطوت صفحة مضيئة من صفحات النضال الوطنى, وترجل القديس النبيل من فوق صهوة جواده فى جلال ومهابة, راحلا فى صمت كما عاش فى صمت, آخر فرسان هذا الزمان.
طبت حيا وميتا يا رفيق.


صفحات من حياة ( أحمد نبيل الهلالي)
• الأسم: أحمد نبيل الهلالي • نجل نجيب باشا الهلالي أخر رئيس وزراء للدولة المصرية فى العهد الملكي• من مواليد 7/8/1928 • حاصل على ليسانس الحقوق عام 1949 واشتغل بالمحاماة من هذا التاريخ • انتخب عضوا فى مجلس نقابة المحامين فى الدورات المتتالية منذ عام 1968 حتى 1992 • انضم للحركة الشيوعية المصرية منذ 1948 وكان أحد كوادر الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى"حدتو"• اعتقل مطلع عام 1959 واستمر الاعتقال لمدة خمس سنوات ثم اعتقل مرة أخري عام 1965 ورفض التوقيع على حل التنظيم شرطا للإفراج عنه واستمر الاعتقال أربع سنوات.• له مؤلفات منها كتاب حرية الفكر والعقيدة .. تلك هى القضية وهو عبارة عن مرافعة قانونية وسياسية فى قضية الحزب الشيوعي المصري عام 1981 والتى كان هو أحد المتهمين فيها وكتابه الأخير هو "اليسار الشيوعي المفتري عليه.. ولعبة خلط الأوراق"وهو عبارة عن ردود على الأكاذيب التى استخدمتها الرجعية المصرية فى حربها ضد الشيوعيين المصريين.• اعتبر مكتبه مقصداً لكل العمال والمقهورين بالإضافة إلى شهرته الذائعة فى الدفاع عن الخصوم السياسيين للسلطة المصرية وخاصة دفاعه عن أعضاء الجماعات الإسلامية وتيار الإسلام السياسي عموماً،أشهرها مرافعته عن المتهمين فى قضية أغتيال رئيس مجلس الشعب الآسبق "د.رفعت المحجوب" ومرافعته فى قضية" الدكتور عمرو عبد الرحمن" بالإضافة إلى مرافعاته فى القضايا العامة مثل قضية أحداث يناير 1977 وقضية إضراب السكة الحديد عام 1986 وقضية حريق قطار الصعيد،ومرافعته فى قضية المستشاريين "هشام البسطاويسي" و"أحمد مكي" وغيرها من القضايا العامة.• توفي فى يونيو عام 2006

Friday, March 28, 2008

أُمةٌ فوق الصّليب


علّقونا أمةً كاملةً فوق الصليب

علّقونا فوقه -

حتى .. نتوب

هذه النكسة ليست

آخر الدنيا ..

ولا نحن عبيد

فأمسحوا أدمعكم

وادفنوا القتلى

وقوموا من جديد

أيها الناس الحزانى

أنتم الدنيا

وأنتم منبع الخير الوحيد

أنتم التاريخ

والمستقبل الباسمُ

في هذا الوجود

فتعالوا نشبك الأيدي يالأيدي

ونمشي في اللهيب

فغدُ الأحرار إن طال

وإن طال

قريب

شعر: توفيق زياد

Thursday, February 14, 2008

من الشعر الأندلسى














ياليل الصب متي غده؟
أقيام الساعة موعده

رقد السمار فأرقه
أسف للبين يردده

فبكاه النجم ورق له
مما يرعاه ويرصده
كلف بغزال ذي هيف
خوف الواشين يشرده

نصبت عيناه لي شركا
في النوم فعز تصيده

وكفي عجبا أني قنص
للسرب سباني أغيده

صنم للفتنة منتصب
أهواه ولا أتعبد
صاح والخمر جني فمه
سكران اللحظ معربده

ينضو من مقلته سيفا
وكأن نعاسا يغمده

فيريق دم العشاق به
والويل لمن يتقلده

كلا لا ذنب لمن قتلت
عيناه ولم تقتل يده

يا من جحدت عيناه دمي
وعلي خديه تورده

خداك قد اعترفا بدمي
فعلام جفونك تجحده
إني لأعيذك من قتلي
وأظنك لا تتعمده

بالله هب المشتاق كري
فلعل خيالك يسعده

ما ضرك لو داويت ضني
صب يضنيك وتبعده
لم يبق هواك له رمقا
فليبك عليه عوده

وغدا يقضي أو بعد غد
هل من نظر يتزوده

يا أهل الشوق لنا شرق
بالدمع يفيض مورده

يهوي المشتاق لقائكموا
وصروف الدهر تبعده
ما أحلي الوصل وأعذبه
لولا الأيام تنكده

بالبين وبالهجران فيا
لفؤادي كيف تجلده

Monday, February 11, 2008

سلطة بلدى....والمعادلة الصعبة


لم تكن الضجة المثارة عن الفيلم التسجيلي الطويل"سلطة بلدى" للمخرجة الواعدة نادية كامل إلا تعبيرا حقيقيا عن الإشكالية القائمة فى المجتمع حول التطبيع مع إسرائيل, نتيجة لتصاعد الدور العدوانى الإسرائيلى فى المنطقة
وقد سنحت لى فرصة مشاهدة هذا الشريط بدعوة من أحد الأصدقاء فى صالة العرض بكنيسة الجزويت بالأسكندرية يوم الثلاثاء 29يناير بحضور مخرجة الفيلم لأكتشف أن موضوع التطبيع مبالغ فيه كثيرا حيث أن الفيلم عبارة عن رؤية ذاتية لمخرجة مجتهدة تتناول فيه تاريخ إختلاط إثنى ودينى وعرقى لأسرتها المتعددة الجذور
الأم مارى روزنتال أو نائلة كامل مولودة لأب يهودي مصري وأم مسيحية إيطالية.
الأب سعد كامل مسلم مصري شيوعي.
إبن الأخت نبيل"الحفيد" مولود لأب فلسطيني وذو جذور مختلطة, مصرية-إيطالية-روسية-لبنانية-قوقازية-تركية-أسبانية.
أي يمكن اعتبار هذه التركيبة "سلطة بلدي" من طماطم وخيار وبقدونس وجرجير وأشياء أخرى.
يبدأ الفيلم بكادر لصلاة العيد فى ميدان عام حيث تصاحب الخالة إبن أختها نبيل ليتعرف على بيئته, حيث يسمع فى الخلفية صوت الخطيب زاعقا فى ميكروفون المسجد بالدعوات على اليهود والكفار, لتبدأ التيمه الأساسية للفيلم عن سؤال الهوية للطفل الصغير نبيل وتتولى الجدة التوضيح له لتزداد الأمور أمامه تعقيدا, بينما تحاول الجدة بذهنها المشوش, وعربيتها المكسّرة الاستعانة ببعض الصور والوثائق, التى تزيد الأمور ضبابية لعقل طفل فى العاشرة, ليصعب أمامه فك طلاسم شهادة ميلاد جدته المكتوب بها فى خانة الديانة إسرائيلية (أى من بني سيدنا إسرائيل"يعقوب" عليه السلام
عند هذه النقطة تتدخل الخالة "المخرجة" بنفسها محاولة أن تساعد نبيل فى البحث عن أصوله, وراغبة فى حل مشكلة فقدانه للهوية, لعدم وجود دولة للفلسطينيين, وتبدأ المشوار بذهابهم إلى إيطاليا حيث أخوال الجدة يعيشون, وهناك يتحدث خال الجدة كيف أن نظام عبد الناصر أرغمهم على مغادرة مصر التى ولدوا فيها, واكتسبوا جنسيتها, وعاشوا فيها معظم حياتهم, حيث لم يعترف بهم وطنهم الأصلي عند عودتهم, وكيف أنهم عانوا كثيرا كى يكسبوا هويتهم الجديدة القديمة, حيث تبّدى للأسرة صعوبة وضع الحفيد
برحلتها الإيطالية تتفتح شهية الجدة للمغامرة, ورغبة البحث عن الجذور, ليستيقظ داخلها جذرها اليهودي النائم منذ أكثر من خمسين عاما, حيث رحل الى إسرائيل بعض أفراد الأسرة من اليهود المصريين إماّ عن رغبة فى دعم الدولة الصهيونية, أو هربا من اضطهاد النظام الناصري (مما يجدر ذكره أن السلطات المصرية كانت قد ألقت القبض على جميع اليهود المصريين أثناء العدوان الثلاثي فى ودفعتهم بعد ذلك الى الخروج الجماعي وذهاب أغلبهم إلى إسرائيل
تبدأ الجدة فى طرح رغبتها فى التواصل مع أقاربها فى إسرائيل, وتتلقف المخرجة هذه الفكرة, لتطرح إمكانية تحويلها الى واقع ملموس, ويبدأ حوار طويل حول الفكرة, ومن تردد الأب سعد كامل الشيوعى القديم, وصدمة الجانب المحافظ من الأسرة الذى يفاجأ بالجذور اليهودية للجدة, ورغبة هذه الجدة فى عدم التنكر لماضيها الشيوعى, هذا الماضى الذى لم يكن يوما حائلا أمام هذا التواصل, فتاريخ الحركة الشيوعية المصرية يرتبط تاريخيا بنضالات اليهود المصريين لتأسيس وقيادة الحركة الشيوعية فى النصف الأول وبدايات النصف الثانى من القرن العشرين منذ قيام جاكو دى كومب بتكوين رابطة أنصار السلام عام حيث توالى الشيوعيون المصريون تأسيس المجموعات الشيوعية والعمل على دمج المصريين فيها مثل
هنرى كوريل وتأسيس الحركة المصرية للتحرر الوطنى
هليل شوارتز وتأسيس منظمة أيسكرا
مارسيل اسرائيل وتأسيس منظمة تحرير الشعب
وقد شارك فى النضال الشيوعى ونظر له المئات من اليهود المصريين برزت منهم أسماء عديدة منها صادق سعد ويوسف درويش وريمون دويك وأوديت حزانى وشحاتة هارون وكثيرون, وكونوا اللجنة اليهودية المعادية للصهيونية, بل أنهم بعد طردهم من مصر إستمروا فى دعمهم للحركة الشيوعية المصرية من خلال مجموعة روما, كما أنه من المعروف قيام هنرى كوريل من منفاه فى باريس بإبلاغ عبد الناصر بموعد الضربة الجوية فى يونيو1967, ولذا فإنه لا مجال للمزايدة عليهم.
على كل حال تتم الرحلة الى إسرائيل فى قمة أحداث الفيلم, وبعد مشاهد الإستقبال الحارة, واللقاء العاطفى الحميمى بين الجدة وإبنة الخالة سيرينا تبدأ ذكريات ومشاعر إنسانية فى التدفق حول ذكرياتهم فى مصر, وعرض الشريط مشاهد من التعايش والتسامح الذى عاشوه قبل حروب العرب مع إسرائيل, وذكرياتهم عن الخروج الحزين والخشن من مصر, والوصول المهين الى إسرائيل.
وينتهى الفيلم برحلة العودة, والمرور براماللة , عبر نقاط التفتيش والحواجز الإسرائيلية, ومنع المخرجة من التصوير, وعرض مشاهد الجدار العازل, وفى راملله لا يسمح لهم بالذهاب الى غزة, وتتحدث الجدة عن عدم إمكانية حل النزاع العربى الإسرائيلى فى هذا الجيل.
لقد ساهمت نادية كامل فى إلقاء حجر فى بركة من الماء الراكد, لتحرك الكثير من المشاعر المختزنة والعقد التاريخية, والصراع الممتد عبر أجيال متعاقبة, بالرغم من أن الشريط يرصد حركة الناس العاديين على الجانبيين, ونظرتهم المتسامحة للحياة وللآخر, لذا فإن الفيلم ظلم كثيرا من نقاّد قد لا يكونوا شاهدوه أصلا, وذلك من خلال نظرة أحادية الجانب, وكأن المخرجة تهدف فقط الى التطبيع مع إسرائيل, ليس هذا فقط بل وصل الأمر الى وقف عضوية المخرجة بنقابة الممثلين وإحالتها للتحقيق.
فى إعتقادى أنه من السهل إتخاذ موقف المقاطعة بدلا من المواجهة, وهذه المقاطعة قد تبدأ بإسرائيل ولا تنتهى بالغرب كله, بل تشمل حتى فلسطينيي 48 بصفتهم يحملون الجنسية الإسرائيلية, كما ذكرت الفلسطينيتين اللاتى تحدثن فى الفيلم, غافلين أن المناداة بحق العودة يشمل عودة فلسطينيي الشتات الى دولة إسرائيل وحمل جنسيتها.

Saturday, January 26, 2008

حين ميسرة...........والأحلام المجهضة.



يعد فيلم حين ميسرة من الأفلام الجادة والهامة جدا فى مسيرة السينما المصرية, والذى يمثل علامة هامة فيما يعرف بسينما الواقعية المصرية الحديثة, والتى تتجاوز نوعية من الأفلام الجيدة لمخرجين من العيار الثقيل أمثال محمد خان وخيرى بشارة وعاطف الطيب ورضوان الكاشف وداود عبد السيد وغيرهم, هؤلاء النخبة من المخرجين الذين أنزلوا السينما المصرية من موجة أفلام الرومانسية والإستعراض ذات الطابع الجنسى الفج, التى تلت هزيمة 1967, الى أرض الواقع, وإلى نوعية من الأفلام تخاطب عقل المشاهد, وأبجديات الحرفة السينمائية.
وقد حاول خالد يوسف أن يقترب بشدة من منطقة مليئة بالألغام, حين وجّه الكاميرا ناحية العالم السري للمناطق العشوائية, التى أصبحت كالبثور المرضية تملأ وجه مصر, لتعبر عن واقع مرير, لحياة دونية هى أشبه بحياة الكلاب والقطط والحيوانات الضالة, والتى يحاول الأغنياء والرأسماليون الجدد إخفائها عن عيون أولادهم, وعيون السيّاح, بحاجز من اللوحات الإعلانية الضخمة, الغارقة فى أضواء النيون, تحمل إعلانات عن أغانى هابطة, ومستحضرات تجميل, وقرى سياحية فاخرة.
لقد إختار خالد يوسف الطريق الأكثر صعوبة, فبدلا من أن يتوجه بكاميرته إلى منطقة كشرم الشيخ أو مارينا ليصنع فيلما يعتمد على بطل ومجموعة من الحسناوات, إختار أن يهبط الى قاع المدينة ومناطقها العشوائية, حيث القبح والفقر والتفسخ الإجتماعى, والتحلل الأخلاقى, والقيم المهدرة, والحياة الغير إنسانية, فيما يشبه الصرخة الحادة الصادمة, فيما يدور الحديث عن 15 مليون من البشر فى مصر يعيشون فى هذه الأحياء, لتثير الكثيرين من مدعى الأخلاق المزيفين, ومن الذين يرتدون عباءة الدين والوطنية الجوفاء, وعلى رأسهم شخص مثل الدكتور عبد الصبور شاهين الذى فجّر القضية المشهورة بتكفير نصر حامد أبو زيد, والشيخ يوسف البدرى المتخصص فى رفع القضايا على المثقفين, ومجموعة من مرتزقى الإسلام السياسى من أعضاء مجلس الشعب من الحزب الوطنى والإخوان, الذين لم يروا فى الفيلم إلا أنه دعوة للمثلية الجنسية فى مشهد لم يتجاوز الثلاث دقائق, متجاوزين مآسى هذه الشريحة الضخمة من البشر, التى لم يتدخل الفيلم إلاّ في إضاءة المشهد لنكتشف أننا جميعا عرايا, وينكشف المستور والمسكوت عنه.
وحتى هذا المشهد الصغير الذى مثلته الفنانتين سمية الخشاب وغادة عبد الرازق, قد أحيا الثورة التى واجهها فيلم "عمارة يعقوبيان" حين تعرض للمثلية الذكورية, وكأن العودة الى الوراء التى تطغى على جميع جوانب الحياة فى المجتمعات العربية والإسلامية, قد أدت الى دفن الرؤوس فى الرمال, وعدم كشف الأخلاقيات المنهارة بحجة الحفاظ على القيم, علما بأن موضوع المثلية قد تكرر فى أفلام قديمة, عندما كانت الحياة أكثر تفتحا, وكانت اهتمامات الناس مختلفة, وأذكر المشاهد بفيلم "الصعود الى الهاوية" والمشهد الذى جمع بين مديحة كامل وإيمان.
ولكن كل ما سبق ذكره لا يمنع من أن بالشريط نقاط ضعف كبيرة أحاول أن أوجزها فيما يلى:
ا-حاول الفيلم كعادة المخرج أن يجمع كل القضايا التى تشغله فى فيلم واحد, العشوائيات والفقر والإرهاب وأطفال الشوارع والتعذيب وحتى المثلية, ولم ينسى أية قضية منها, مما جعل الفيلم مفككا وأفقد المخرج الكثير من التركيز. 2-ركّز المخرج كثيرا على الجوانب السلبية لهذه الشريحة الكبيرة من سكان العشوائيات, مغفلا جوانب أخرى إيجابية عديدة, وقد كانت لى شخصيا تجربة معايشة هذه الشريحة لمدة طويلة, حيث أقمت فى إحدى المناطق العشوائية بالأسكندرية فى السبعينات, وكان نسبة كبيرة من سكانها من الطبقة المتوسطة التى إضطرتها ظروف الحياة والإنهيارالطبقى الذى واكب الإنفتاح الإقتصادى الى الإنتقال لهذه المناطق, خاصة الذين إنهارت منازلهم ووجدوا أنفسهم فجأة فى الشارع بأسرهم, وليس لديهم أى شيئ ففضلوا سكنى عشة فى العشوائيات بدلا من الحياة على الرصيف, وقد شاهدت بأم عينى صورا إنسانية مبدعة من التضامن والتكافل بين هؤلاء البشر. 3- حاول الفيلم كغيره من الأفلام التجارية الإعتماد على التيمة التقليدية للأفلام التى تبرر الإنحراف بالظروف, كأن يدفع الفقر البطل لتجارة المخدرات أو الإجرام, فى تقليد باهت لأفلام كلاسيكية عظيمة كسعيد مهران فى اللص والكلاب, وكذلك المرأة التى ترغمها الظروف الإقتصادية وزوج الأم الى السقوط, والتحول الى راقصة وعاهرة, مشاهد أبدع فيها تاريخيا حسن الإمام. 4- إقحام الكثير من الموضوعات الجانبية بالفيلم مثل موضوع المثلية الجنسية الذى لم يكن مبررا والواضح أنه كان لأسباب تجارية لا علاقة لها بالسياق الأساسى للفيلم, وكذلك موضوع حرب الخليج الثانية وتنظيم القاعدة, وفرضية الأخ الغائب أو المخلّص في الوعي الشعبي, الذي على يديه خلاص الأسرة والحارة، ليفاجئنا المخرج بكونه أحد زعماء القاعدة, وتجرى عملية تعذيب فاشية لكل الحارة تحت ذريعة جمع معلومات عن مكان وجوده. 5- الإنتقال الغير منطقي لمعظم الشخصيات, مما تسبب في إحداث خلل في البناء الدرامى لها, فشخصية عادل تتحول من الخير الى الشر الى الإجرام بشكل غير مبرر, كذلك ما حدث لعمرو عبد الجليل الذي بدا فى المشاهد الأولى للفيلم كمجرم محترف لنفاجأ الى تحوله بعد ذلك الى مجرد مهرّج بطريقة طفولية ساذجة, وكذلك شخصية أحمد بدير وغيرها من الشخصيات. 6- القفزات الزمنية المفككة كما حدث للطفل الذى أنجبته ناهد, وغياب المبرر الحقيقى لتحوله الى متشرد, وكأن جينات الصعلكة تجرى فى دمه. 7- المبالغة فى قوة الإرهابيين وعددهم وخططهم الدقيقة فى الإيقاع بأجهزة الأمن والإنسحاب الدقيق والمنظم, مع تضخيم قوة خيالية لنيرانهم, مما قد يؤدى إلى عكس المقصود. 8- محاولة المزج الدرامي لواقع قدري مفتعل في مشهد النهاية وكأننا نشاهد أحد روائع حسن الإمام أو فيلم هندي, ليجمع الأب والأم والابن في مواجهة قطار الحياة, وداخل قطار الواقع في محاولة الهروب من واقعهم.
- الأب الهارب من واقع أليم الى مصير مجهول.
- الأم التى لوث الفقر ماضيها, ولوث المال حاضرها, هاربة هى أيضا الى المجهول.
- الابن المشرد القاتل الطريد, والذى يحمل أيضا إبنا مجهولا, ويتجه الى مستقبل مجهول.
الكل يبحث عن الآخر ولكنهم يسيرون فى خطوط متوازية لا تلتقى أبدا.
بيد أن الفيلم صنع بحرفية متقنة, ووظف المخرج إمكانيات ممثليه بشكل متمكن, وإن كانت الرائعة هالة فاخر قد تفوقت على نفسها, كذلك جاء دور عمرو سعد وسمية الخشاب مقنعا.
يبقى فى النهاية شرف إقتحام هذه المناطق الملغومة والصعبة للمخرج المتميز خالد يوسف, فستظل مثل هذه الأماكن تفرخ أسوأ ظاهرة غير إنسانية وهى الإرهاب, والشاهد القريب على ذلك هى أحداث"نهر البارد".