Saturday, January 26, 2008

حين ميسرة...........والأحلام المجهضة.



يعد فيلم حين ميسرة من الأفلام الجادة والهامة جدا فى مسيرة السينما المصرية, والذى يمثل علامة هامة فيما يعرف بسينما الواقعية المصرية الحديثة, والتى تتجاوز نوعية من الأفلام الجيدة لمخرجين من العيار الثقيل أمثال محمد خان وخيرى بشارة وعاطف الطيب ورضوان الكاشف وداود عبد السيد وغيرهم, هؤلاء النخبة من المخرجين الذين أنزلوا السينما المصرية من موجة أفلام الرومانسية والإستعراض ذات الطابع الجنسى الفج, التى تلت هزيمة 1967, الى أرض الواقع, وإلى نوعية من الأفلام تخاطب عقل المشاهد, وأبجديات الحرفة السينمائية.
وقد حاول خالد يوسف أن يقترب بشدة من منطقة مليئة بالألغام, حين وجّه الكاميرا ناحية العالم السري للمناطق العشوائية, التى أصبحت كالبثور المرضية تملأ وجه مصر, لتعبر عن واقع مرير, لحياة دونية هى أشبه بحياة الكلاب والقطط والحيوانات الضالة, والتى يحاول الأغنياء والرأسماليون الجدد إخفائها عن عيون أولادهم, وعيون السيّاح, بحاجز من اللوحات الإعلانية الضخمة, الغارقة فى أضواء النيون, تحمل إعلانات عن أغانى هابطة, ومستحضرات تجميل, وقرى سياحية فاخرة.
لقد إختار خالد يوسف الطريق الأكثر صعوبة, فبدلا من أن يتوجه بكاميرته إلى منطقة كشرم الشيخ أو مارينا ليصنع فيلما يعتمد على بطل ومجموعة من الحسناوات, إختار أن يهبط الى قاع المدينة ومناطقها العشوائية, حيث القبح والفقر والتفسخ الإجتماعى, والتحلل الأخلاقى, والقيم المهدرة, والحياة الغير إنسانية, فيما يشبه الصرخة الحادة الصادمة, فيما يدور الحديث عن 15 مليون من البشر فى مصر يعيشون فى هذه الأحياء, لتثير الكثيرين من مدعى الأخلاق المزيفين, ومن الذين يرتدون عباءة الدين والوطنية الجوفاء, وعلى رأسهم شخص مثل الدكتور عبد الصبور شاهين الذى فجّر القضية المشهورة بتكفير نصر حامد أبو زيد, والشيخ يوسف البدرى المتخصص فى رفع القضايا على المثقفين, ومجموعة من مرتزقى الإسلام السياسى من أعضاء مجلس الشعب من الحزب الوطنى والإخوان, الذين لم يروا فى الفيلم إلا أنه دعوة للمثلية الجنسية فى مشهد لم يتجاوز الثلاث دقائق, متجاوزين مآسى هذه الشريحة الضخمة من البشر, التى لم يتدخل الفيلم إلاّ في إضاءة المشهد لنكتشف أننا جميعا عرايا, وينكشف المستور والمسكوت عنه.
وحتى هذا المشهد الصغير الذى مثلته الفنانتين سمية الخشاب وغادة عبد الرازق, قد أحيا الثورة التى واجهها فيلم "عمارة يعقوبيان" حين تعرض للمثلية الذكورية, وكأن العودة الى الوراء التى تطغى على جميع جوانب الحياة فى المجتمعات العربية والإسلامية, قد أدت الى دفن الرؤوس فى الرمال, وعدم كشف الأخلاقيات المنهارة بحجة الحفاظ على القيم, علما بأن موضوع المثلية قد تكرر فى أفلام قديمة, عندما كانت الحياة أكثر تفتحا, وكانت اهتمامات الناس مختلفة, وأذكر المشاهد بفيلم "الصعود الى الهاوية" والمشهد الذى جمع بين مديحة كامل وإيمان.
ولكن كل ما سبق ذكره لا يمنع من أن بالشريط نقاط ضعف كبيرة أحاول أن أوجزها فيما يلى:
ا-حاول الفيلم كعادة المخرج أن يجمع كل القضايا التى تشغله فى فيلم واحد, العشوائيات والفقر والإرهاب وأطفال الشوارع والتعذيب وحتى المثلية, ولم ينسى أية قضية منها, مما جعل الفيلم مفككا وأفقد المخرج الكثير من التركيز. 2-ركّز المخرج كثيرا على الجوانب السلبية لهذه الشريحة الكبيرة من سكان العشوائيات, مغفلا جوانب أخرى إيجابية عديدة, وقد كانت لى شخصيا تجربة معايشة هذه الشريحة لمدة طويلة, حيث أقمت فى إحدى المناطق العشوائية بالأسكندرية فى السبعينات, وكان نسبة كبيرة من سكانها من الطبقة المتوسطة التى إضطرتها ظروف الحياة والإنهيارالطبقى الذى واكب الإنفتاح الإقتصادى الى الإنتقال لهذه المناطق, خاصة الذين إنهارت منازلهم ووجدوا أنفسهم فجأة فى الشارع بأسرهم, وليس لديهم أى شيئ ففضلوا سكنى عشة فى العشوائيات بدلا من الحياة على الرصيف, وقد شاهدت بأم عينى صورا إنسانية مبدعة من التضامن والتكافل بين هؤلاء البشر. 3- حاول الفيلم كغيره من الأفلام التجارية الإعتماد على التيمة التقليدية للأفلام التى تبرر الإنحراف بالظروف, كأن يدفع الفقر البطل لتجارة المخدرات أو الإجرام, فى تقليد باهت لأفلام كلاسيكية عظيمة كسعيد مهران فى اللص والكلاب, وكذلك المرأة التى ترغمها الظروف الإقتصادية وزوج الأم الى السقوط, والتحول الى راقصة وعاهرة, مشاهد أبدع فيها تاريخيا حسن الإمام. 4- إقحام الكثير من الموضوعات الجانبية بالفيلم مثل موضوع المثلية الجنسية الذى لم يكن مبررا والواضح أنه كان لأسباب تجارية لا علاقة لها بالسياق الأساسى للفيلم, وكذلك موضوع حرب الخليج الثانية وتنظيم القاعدة, وفرضية الأخ الغائب أو المخلّص في الوعي الشعبي, الذي على يديه خلاص الأسرة والحارة، ليفاجئنا المخرج بكونه أحد زعماء القاعدة, وتجرى عملية تعذيب فاشية لكل الحارة تحت ذريعة جمع معلومات عن مكان وجوده. 5- الإنتقال الغير منطقي لمعظم الشخصيات, مما تسبب في إحداث خلل في البناء الدرامى لها, فشخصية عادل تتحول من الخير الى الشر الى الإجرام بشكل غير مبرر, كذلك ما حدث لعمرو عبد الجليل الذي بدا فى المشاهد الأولى للفيلم كمجرم محترف لنفاجأ الى تحوله بعد ذلك الى مجرد مهرّج بطريقة طفولية ساذجة, وكذلك شخصية أحمد بدير وغيرها من الشخصيات. 6- القفزات الزمنية المفككة كما حدث للطفل الذى أنجبته ناهد, وغياب المبرر الحقيقى لتحوله الى متشرد, وكأن جينات الصعلكة تجرى فى دمه. 7- المبالغة فى قوة الإرهابيين وعددهم وخططهم الدقيقة فى الإيقاع بأجهزة الأمن والإنسحاب الدقيق والمنظم, مع تضخيم قوة خيالية لنيرانهم, مما قد يؤدى إلى عكس المقصود. 8- محاولة المزج الدرامي لواقع قدري مفتعل في مشهد النهاية وكأننا نشاهد أحد روائع حسن الإمام أو فيلم هندي, ليجمع الأب والأم والابن في مواجهة قطار الحياة, وداخل قطار الواقع في محاولة الهروب من واقعهم.
- الأب الهارب من واقع أليم الى مصير مجهول.
- الأم التى لوث الفقر ماضيها, ولوث المال حاضرها, هاربة هى أيضا الى المجهول.
- الابن المشرد القاتل الطريد, والذى يحمل أيضا إبنا مجهولا, ويتجه الى مستقبل مجهول.
الكل يبحث عن الآخر ولكنهم يسيرون فى خطوط متوازية لا تلتقى أبدا.
بيد أن الفيلم صنع بحرفية متقنة, ووظف المخرج إمكانيات ممثليه بشكل متمكن, وإن كانت الرائعة هالة فاخر قد تفوقت على نفسها, كذلك جاء دور عمرو سعد وسمية الخشاب مقنعا.
يبقى فى النهاية شرف إقتحام هذه المناطق الملغومة والصعبة للمخرج المتميز خالد يوسف, فستظل مثل هذه الأماكن تفرخ أسوأ ظاهرة غير إنسانية وهى الإرهاب, والشاهد القريب على ذلك هى أحداث"نهر البارد".