Sunday, June 29, 2008

الموتى يعلمون الأحياء




كان يومها الأول فى الدراسة الأكاديمية بالكلية, ترددت قليلا قبل أن تدخل القاعة الكبيرة التى كتب أعلى بابها بالعربية وحروف أخرى لم تتبينها"المشرحة التعليمية", صدمتها رائحة حادة نفاّذة بالداخل, جعلت عيناها تدمعان, لا تذكر أنها إشتمت مثل هذه الرائحة من قبل, البياض يغلب على المكان, الحوائط بيضاء, معاطف الطلبة, الأغطية, الطاولات الرخامية.
القاعة ممتلئة, الضجة شديدة, عشرات الرؤوس تتزاحم حول الطاولات الموزعة بالقاعة, حاولت تبين وجه أى من زملاء الدفعة, شعرت بالدوار من الرائحة والضجة, قررت الإنسحاب من القاعة, كادت تصطدم به على الباب, بوسامته التقليدية, ومعطفه الأبيض على كتفه, حيته فإستوقفها, إنتحى بها جانبا وبدأ يتكلم بصوت خفيض لا تكاد تسمعه, كانت ذهنها مشتتا, لم تستطع متابعته, إلتقطت كلمات عن بريخت والمسرح الجامعى والمسابقة, إعتذرت منه بصداع مفاجيء, وسارت مسرعة الى البيت.
فى اليوم التالى إستيقظت معتلة المزاج, تناولت كوبا من القهوة, وإرتدت ملابسها على عجل, فى الطريق الى الجامعة لفحتها نسائم خريفية رقيقة, أعادت لها بعض الإنتعاش, أصرّت أن تكون أقوى من الأمس, قررت بين نفسها عدم حضور المحاضرات النظرية, دلفت مسرعة الى باب المشرحة, كان الزحام أقل من الأمس, لكن نفس الرائحة تستفز خياشيمها, قاومت تلك الرائحة, تعمدت عدم التطلع حولها كثيرا, لمحته مع زميل آخر وطالبتين حول إحدى الطاولات الرخامية, إنضمت اليهم فى صمت, وفتحت كتابها فى هدوء.
بدأ أحدهم القراءة, بينما الآخر يحرك المشرط على الجثة ببطأ, شردت وهى تنظر الى الرأس بعمق, العينان الغائرتين,لون الجلد المائل الى السمرة, الشعر المجدول بعناية خلف الرأس, والأسنان التى تبدو خلف الشفتين المفتوحتين, أليست تشبه المرحومة, بالرغم من جفاف الجلد, والعينين, وعظام الوجنتين والفك البارز, سبحان الله, نعم إنها صورة مطابقة لها, كل هذا الشبه.
شعرت بجفاف فى حلقها, إنتابتها غصّة, أحست بوخزات حادة عندما إقترب المشرط من الجلد, لم تشعر الاّ بعينيها تدوران فى حدقتيهما, وروحها تنسحب منها, أمسكت بيديها بشدة فى الطاولة الرخامية الا تسقط , رويدا بدأت تستعيد توازنها.
تفقدت بعينيها المكان, دارت بهما على الإضاءة القوية بالسقف, تحركتا الى الحوائط, ثبتت عينيها على لوحة رخامية كبيرة بألوان صفراء باهتة محفورعليها بضع كلمات بالعربية واللاتينية" الموتى يعلمون الأحياء".
شردت بذهنها بعيدا, إلى أيام طفولتها الأولى, عندما كانت تفرد ذراعيها لتحتضنها فتنغرس فى كتلة هائلة من الشحم الناعم الملمس, وتفتح صندوقها السحرى ببضع قطع من "سكر البنات", تحكى لها حكايات الشاطر حسن وشمس البدور, ملقية بها فى بحر الخيال السحرى الجميل, وفجأة ها هى صورة مطابقة لها على الطاولة الرخامية الملساء.
فى الطريق راجعة لم تستطع أن تنزع عنها هذه الصورة, لقد شغلت ملامحها بؤرة التفكير, كادت سيارة مسرعة أن تدهمها لولا لطف الله, طرقت الباب خفيفا, متوقعة أن تكون من تفتح, خاب ظنها, ما إن دخلت غرفتها حتى إستلقت بملابسها على السرير, وإنتابتها نوبة عميقة من البكاء.
لم تجرؤ أن تمسك المشرط بين أصابعها وتغمده فى الجلد اليابس, كانت تعمد الى إدارة وجهها بعيدا أثناء الشرح, لم تلتقط أذناها مما يقال الاّ القليل, كانت تخفى وجهها فى وجهه, لأول مرة ترى عينيه, كم هما صافيتين, عادت لتدس عينيها فى الكتاب, أحست كم هى مشوشة.
رأتها فى الحلم, فرحة متهللة, ضمتها الى صدرها فى طيبة وحنو, كعادتها فردت خدها لتتلقى منها قبلة, سكبت قبلتها رطبة, تلقتها بإرتياح وشوق, يدها الملساء البضة تربت عليها, قبل أن يفترقا همست لها: لا تترددى فالكل فى إنتظارك.
عاد إليها الهدوء, أقبلت على دروس التشريح بحماس, أحست كأنما تساعدها, كم كانت فى حاجة الى هذا الدعم المعنوى, حتى عصام بدا أكثر ألقا, أصبحت تحب ثرثرته, لم تعد تضايقها رائحته, عادت الى المكوث بجواره كثيرا, يقضيان أغلب الوقت فى الكافيتريا, أو فى مدخل المدرج الكبيرحيث كان ينصب مجلة الحائط الخاصة به.
بينما يسيران على الكورنيش, تسللت يده لتمسك يدها, بخجل أعطته أطراف أصابعها, أحست ببرودة أصابعه, رويدا إحتوت قبضته الكبيرة يدها, غمر يدها دفء, بينما لم تنقطع ثرثرته, عالم المسرح يتملكه, مجنون به هو, عندما يبدأ الحديث عن المسرح فإنه لا يستطيع أن يتوقف.
تعودت أن تراها فى اليوم مرتين, صباحا فى المشرحة, وليلا أثناء نومها, تعايشت مع الحدثين, أصبحت تنتظرها فى الموعد, لم تكن تستطيع تحديد سبب إنتعاشها كل صباح, هل لإنها ستراها؟, أم لأنها ستراه, تعودت عليهما معا.
بينما تخطو مسرعة فى الطريق الى الكلية, ما زال الصباح نديا , بعض الهواء البارد يلفح بشرتها, فجأة إستوقفتها يد مرتعشة تمتد إليها, نظرت إليها, لم تصدق, أغمضت عينيها وفتحتها عدة مرات, هزّت رأسها غير مصدقة .
تعمّدت التوقف , ببطأ تحركت يدها لتفتح الحقيبة, أخرجت جنيها, عينها عليها لم تسقطها, ياإلهى, , إنها هى, جدتها مرّة ثالثة, ما هذا الذى يحدث, إنها هى, وجهها, عينيها , شعرها, كل شيء , كيف تفسر ذلك, لا بد أن بها مس من جنون.
تغير مزاجها, إرتبكت خطواتها, دخلت من الباب, تمنت ألاّ تجد الجثة مكانها, تطلعت من بعيد إلى الطاولة الرخامية فى الركن, ها هى ممددة فى مكانها, أسرعت بالخروج.
فى الشارع أخذت نفسا عميقا, صاعدة فى الطريق فى إتجاه الشمال, نسائم الصباح تلفح وجهها, رائحة البحر المشبعة باليود تنعش خياشيمها, سارت على الكورنيش قليلا, أصوات النوارس تملأ المكان, على طاولة رخامية جلست, يمتد بصرها إلى الزرقة اللا متناهية.

Wednesday, June 25, 2008

آخر أعمال الشاعر..محمود درويش



"سقط القطار عن الخريطة




:عُشْبٌ، هواء يابسٌ، شَوْكٌ، وصَبَّارٌ على سِكَك الحديد. هناك شَكْلُ الشيء في عَبَثيَّة اللاّ شكل يمضغ ظلَّهُ...عَدَمٌ هناك مُوَثَّقٌ... ومُطَوَّقٌ بنقيضهِ ويمامتان تُحَلِّقانِ على سَقيفة غرفة مهجورة عند المحطّةِ والمحطّةُ مثل وَشْم ذاب في جسد المكانِ هناك أَيضاً سَرْوتان نحيلتان كإبرتين طويلتينِ تُطَرِّزان سحابةً صفراءَ ليمونيَّةً
وهناك سائحةٌ تُصَوِّر مَشْهَديْنِ: الأوَّلّ - الشمس التي افترشتْ سرير البحرِ والثاني - خُلُوَّ المقعد الخشبيّ من كيس المسافرِ
يَضْجَرُ الذَهَبُ السماويّ المُنَافقُ من صلابَتِه
وقفتُ على المحطَّة... لا لأنتظر القطارَ ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليّات شيءٍ ما بعيدٍ، بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكان كجرّةٍ خزفيّة،
ومتى وُلدت وأَين عشت، وكيف هاجرتِ الطيورُ إلى الجنوب أو الشمال. ألا تزال بَقِيَّتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ على فَسَاد الواقعيّ؟ ألا تزال غزالتي حبلى؟
كبرنا. كم كبرنا، والطريق إلى السماء طويلة
كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من بلاد الشام حتى مصر. كان صفيرُهُ يُخْفي ثُغاءَ الماعزِ المبحوحَ عن نَهَمِ الذئاب، كأنه وقتٌ خرافيّ لتدريب الذئاب على صداقتنا. وكان دخانه يعلو على نار الثرى المتفتّحات الطالعات من الطبيعة كالشجيرات/
الحياة بداهةٌ. وبيوتنا كقلوبنا مفتوحةُ الأبواب
كُنَّا طيِّبين وسُذَّجاً. قلنا: البلادُ بلادُنا قَلْبُ الخريطة لن تصاب بأيِّ داء خارجيّ، والسماءُ كريمةٌ معنا. ولا نتكلَّم الفصحى معاً إلاَّ لماماً: في مواعيد الصلاة، وفي ليالي القَدْر. حاضِرُنا يُسامِرُنا: "معاً نحيا". وماضينا يُسَلّينا "إذا احْتَجْتُمْ إليَّ رجعتُ". كنا طيّبين وحالمين فلم نر الغَدَ يسرقُ الماضي - طريدَتَهُ، ويرحلُ
كان حاضرنا يُربًّي القمح واليقطين قبل هنيهة، ويرقِّصُ الوادي
وقفتُ على المحطَّة في الغروب: أَلا تزال هنالك امرأتان في امرأة تُلمِّع فَخْذَها بالبرق؟ أسطورِيَّتان - عَدُوَّتان - صديقتان، وتوأمان على سطوح الريح. واحدةٌ تُغَازِلُني. وثانيةٌ تُقَاتلُني؟ وهل كَسَرَ الدمُ المسفوكُ سيفاً واحداً لأقول: إنَّ إلهتي الأُولى معي؟
صَدَّقْتُ أُغنيتي القديمةَ كي أُكذِّب واقعي
كان القطار سفينةً بريَّةً ترسو... وتحملنا إلى مُدُن الخيال الواقعيّةِ كلما احتجنا إلى اللعب البريء مع المصائر. للنوافذ في القطار مَكَانةُ السحريِّ في العاديِّ: يركضُ كل شيء. تركضُ الأشجارُ والأفكارُ والأمواجُ والأبراجُ تركض خلفنا. وروائحُ الليمون تركض. والهواءُ وسائر الأشياء تركضُ، والحنين إلى بعيد غامضٍ، والقلب يركضُ
كُلُّ شيء كان مختلفاً ومؤتلفاً
وقفتُ على المحطّة. كنتُ مهجوراً كغرفة حارس الأوقات في تلك المحطّة. كنتُ منهوباً يُطِلُّ على خزائنه ويسأل نفسه: هل كان ذاك الحقلُ/ ذاك الكِنْزُ لي؟ هل كان هذا اللازورديُّ المبلَّلُ بالرطوبة والندى الَليْليِّ لي؟ هل كُنْتُ في يوم من الأيام تلميذَ الفراشة في الهشاشة والجسارة تارةً، وزميلَها في الاستعارة تارةً؟ هل كُنْتُ في يوم من الأيام لي؟ هل تمرض الذكرى معي وتصاب بالحُمَّى؟
أَرى أَثَري على حجر، فأحسب أَنه قَمَري وأُنشد واقفاً
طَلَليَّةٌ أُخرى وأُهلك ذكرياتي في الوقوف على المحطّة. لا أُحبُّ الآن هذا العشب، هذا اليابسَ المنسيَّ، هذا اليائسَ العَبَثيَّ، يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقيّ. ولا أُحبُّ الأقحوان على قبور الأنبياءِ. ولا أُحبّ خلاص ذاتي بالمجاز، ولو أرادَتْني الكمنجةُ أن أكون صدىً لذاتي. لا أُحبّ سوى الرجوع إلى حياتي، كي تكون نهايتي سرديَّةً لبدايتي
كدويّ أجراسٍ، هنا انكسر الزمان
وقفتُ في الستين من جرحي. وقفت على المحطّة، لا لأنتظر القطار ولا هُتَاف العائدين من الجنوب إلى السنابل، بل لأحفظ ساحل الزيتون والليمون في تاريخ خارطتي. "أهذا... كل هذا للغياب" وما تبقَّى من فُتات الغيب لي؟ هل مرَّ بي شبحي ولوَّح من بعيد واختفى، وسألتُهُ: هل كُلَّما ابتسم الغريبُ لنا وَحيَّانا ذبحنا للغريب غزالةً؟
وقع الصدى منِّي ككوز صنوبرٍ
لا لشيء يرشدني إلى نفسي سوى حدسي. تبيض يمامتان شريدتان رسائلَ المنفى على كتفيّ، ثم تحلِّقان على ارتفاع شاحب. وتمرُّ سائحة وتسألني: أَيمكن أَن أُصوِّركَ احتراماً للحقيقة؟ قُلْتُ: ما المعنى؟ فقالت لي: أَيمكن أن أُصَوِّركَ امتداداً للطبيعةِ؟ قُلْتُ: يمكن... كل شيء ممكنٌ، فعمي مساءً، واتركيني الآن كي أخلو إلى الموت... ونفسي!
للحقيقة، هـهنا، وَجْهٌ وحيدٌ واحدٌ ولذا... سأُنشد
أنتَ أنتَ ولو خسرتَ. أنا وأنت اثنان في الماضي: وفي الغد واحد. مرَّ القطار ولم نَكن يَقِظَيْن، فانهضْ كاملاً متفائلاً، لا تنتظر أحداً سواك هنا. هنا سقط القطارُ عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحليّ. وشبَّت النيران في قلب الخريطة، ثم أَطفأها الشتاءُ وقد تأخّر. كم كبرنا كم كبرنا قبل عودتنا إلى أسمائنا الأولى!
أَقول لمن يراني عبر منظارٍ على بُرْجٍ الحراسةِ: لا أراكَ، ولا أراكَ
أرى مكاني كُلَّه حولي. أَراني في المكان بكُلِّ أَعضائي وأسمائي. أرى شَجَرَ النخيل يُنَقِّح الفصحى من الأخطاء في لغتي. أرى عادات زهر اللوز في تدريب أُغنيتي على فَرَحٍ فجائيّ. أَرى أَثري وأَتبعه. أَرى ظلِّي وأَرفعه من الوادي بملقط شَعْر كَنْعَانيّةٍ ثَكْلى. أَرى ما لا يُرَى من جاذبيَّة ما يَسيل من الجمال الكامل المتكامل الكُلِّيِّ في أَبد التلال. ولا أَرى قنّاصتي.
ضيفاً على نفسي أَحلُّ
هُناكَ موتى يوقدون النار حول قبورهم. وهناك أَحياء يُعدُّونَ العشاء لضيفهم. وهناك ما يكفي من الكلمات كي يعلو المجازُ على الوقائع. كُلَّما اغتمَّ المكانُ أَضاءَهُ قمر نُحَاسيّ ووسَّعه. أَنا ضَيْفٌ على نفسي. ستُحْرجُني ضيافتُها وتُبْهجُني، فأشرق بالكلام وتشرقُ الكلمات بالدمع العصيّ. ويشرب الموتى مع الأحياء نعناع الخلود، ولا يطيلون الحديث عن القيامةِ
لا قطار هناك. لا أَحد سينتظر القطار
بلادنا قَلْبُ الخريطة. قلبها المثقوبُ مثل القِرْش في سوق الحديد، وآخر الرُكَّاب من إحدى جهات الشام حتى مصر لم يرجع ليدفع أُجْرَةَ القنَّاص عن عَمَلٍ إضافيّ - كما يتوقع الغرباءُ. لم يرجع ولم يحمل شهادة موتِهِ وحياتِهِ مَعَهُ لكي يتبيَّن الفُقَهاءُ في علم القيامة أَين موقعه من الفردوس. كم كنا ملائكة وحمقى حين صَدَّقْنا البيارق والخيول، وحين آمنَّا بأن جناح نسر سوف يرفعنا إلى الأعلى!
سمائي فكرةٌ. والأرضُ منفايَ الـمُفَضَّل
كُلُّ ما في الأمر أَني لا أُصدِّق غير حدسي. للبراهين الحوار المستحيلُ. لقصَّة التكوين تأويلُ الفلاسفة الطويلُ. لفكرتي عن عالمي خَلَلٌ يُسَبِّبهُ الرحيلُ. لجرحيَ الأبديّ محكمة بلا قاض حياديّ. يقول لي القضاة المنهكون من الحقيقة: كُلُّ ما في الأمر أَن حوادث الطرقات أَمْرٌ شائع. سقط القطار عن الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي، وهذا لم يكن غَزْواً!
ولكني أَقول: وكُلّ ما في الأمر أَني لا أُصدِّق غير حدسي
لم أَزل حيّا

Monday, June 02, 2008

فى الذكرى الثانية لرحيل نبيل الهلالى


القديس النبيل

ما كان أحوجنا اليك هذه الأيام, لم نكن فى حاجة الى اللجوء اليك فى المدلهمات والنوازل, كنت دائما حاضرا, بإبتسامتك الوادعة كطفل, وبثقتك وهدوئك الراسخين, لم تسمع يوما عن قضية عمالية أو فلاحية أو وطنية إلا كنت أول الحضور, قبل أن نفكر فيك كنت تفكر فينا, تدخل الى قاعة المحكمة بجسدك النحيل الذى هدّته السجون والمعتقلات, ونظارتك العتيقة, وإبتسامتك الصافية, وصوتك الذى لم نكن نسمعه الا همسا فى المناقشات, فإذا به صوتا جهوريا عملاقا فى الدفاع عن المظلومين, أين أنت الآن يا أبو زيد, كم نحن فى حاجة اليك.
كنت بيننا كفرد منا, بل كنت دائما تعطينا الإحساس بأنك فى حاجة الينا, كنا عندما نمارس الفعل الثورى نعتمد على أن ورائنا ظهرا قويا يحمينا, رجل بحجم كتيبة كاملة, كنت تسأل عنا فردا فردا, وكأننا أصدقاء قدامى, تعطينا الإحساس بالأمان, والقوة, والثقة فى المستقبل, لم تكن فى مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها قضية طلابية أو عمالية أو فلاحية إلا كنت تتصدى بكل كيانك وروحك دفاعا عن الوطن.
لقد عرفت القوى السياسية جميعها فى مصر "أحمد نبيل الهلالى" كمدافع صلب فى القضايا الوطنية فى قاعات المحاكم, ولكن لم يكن الجميع يدركون دوره السياسى العظيم فى إطار الحركة اليسارية المصرية, فقد بدأ نضاله السياسى مبكرا منذ عام 1948 فى تنظيم الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى"حدتو" أهم وأكبر التنظيمات الشيوعية المصرية فى هذا التاريخ والتى إتخذت هذا الإسم بعد اتحادها مع "منظمة الشرارة" فى عام 1947, وذلك فى بداية إلتحاقه بكلية الحقوق, وظل طوال تاريخه الحافل متمسكا بأجمل وأنبل ما فى هذا الفكر, منحازا للفقراء والكادحين, مضحيا بحياة القصور والسرايات.
ولد" أحمد نبيل الهلالى" فى السابع من أغسطس للعام 1928بمدينة أسيوط وأسلم الروح فى 16 يونيو عام 2006, وبين رحلة الميلاد والموت حياة حافلة بالنضال والسجون والعمل السياسى والروح الكفاحية بين حركة حدتو والحزب الشيوعى المصرى الموحد1958, والحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات بعد دفاعه السياسى فى 15 يناير 1959, ورفضه لحل الحزب فى 14 مارس 1965, ثم إعادة بناء الحزب مع عدد قليل من قياداته التاريخية على رأسهم صديق عمره ورفيق كفاحه "زكى مراد" والذى لقى حتفه فى حادث سيارة غامض, وليستمر الهلالى فى قيادة الحزب بذات الروح النضالية العالية, بعد أن كان قد تخلى نهائيا عن ثروته من ميراث والده "الباشا" آخر رئيس للوزراء بمصر قبل الثورة, ووزع تلك الثروة على الفلاحين الذين كانوا أجراء للأرض.
وعندما أطلق رفاقه لقب "القديس" عليه, كان بسبب زهده وإختياره حياة بسيطة ومتقشفة, وصلابته الشديدة فى الفاع عما آمن به, وليس أدل على ذلك من تكرار دفاعه السياسى عن التنظيم الذى ينتمى اليه, حيث أن الدفاع السياسى يعنى أن يعلن المتهم عن إنتمائه العقائدى, وأن يطرح فى قاعة المحكمة دفاعه عن هذا المبدأ, متحملا تبعات هذا الموقف, وما يترتب عليه من تحدى للسلطة, ومواجهة لعقابها.
حدث هذا مع الراحل العظيم أكثر من مرة, الأولى فيما عرف بقضية الشيوعيين الكبري، أمام محكمة المجلس العسكرى برئاسة الفريق هلال عبدالله هلال فى 15 أغسطس 1959 وأمام طوفان التعذيب والتهديد ليقدم دفاعا سياسيا عما يراه الشيوعيون لوطنهم، ويجمع رفاقه أجمعون أن دفاع نبيل كان مثالا رائعا للمناضل الثورى وأن هذا الدفاع كان من أروع ما قدم فى هذه القضية.
المرة الثانية عندما قدم مرافعة قانونية وسياسية فى قضية الحزب الشيوعي المصري عام 1981
والتى كان المتهم الرئيسى فيها, وصدرت هذه المرافعة فيما بعد فى كتاب بعنوان" حرية الفكر والعقيدة , تلك هى القضية", دفاعا عن حرية الفكروالإنتماء, وعن مبادئ وأفكار وخط الحزب.وإختتم نبيل الهلالى مرافعته بالقول (إسمحوا لي أن أختم مرافعتي بأن أعبر عن ثقتي الكاملة في أن ترزية القضايا مهما تفننوا في الاختلاق ومهما أتقنوا فنون التلفيق سيكونوا عاجزين لا محالة عن تضليل العدالة؛ لأن العدالة تظل لها عينها الساهرة، وهي دوما قادرة على انتشال الحقيقة من تحت ركام الأباطيل..).
وأذكر هنا واقعة طريفة حدثت أثناء التحقيق فى هذه القضية, عندما كانت النيابة تحقق فيها, وبسؤال أحد المتهمين (ولم يكن عضوا بالحزب) ما إذا كان يعرف المدعو "نبيل الهلالى" فأجاب مازحا أنه لا يعرف سوى "أبو زيد الهلالى", وكانت المشكلة أن الإسم الحركى لنبيل الهلالى هو أبوزيد.
لم تكن لتملك الا أن تحبه, وأن تحترمه مهما إختلفت معه, لذا فقد إختاره زملائه المحامين لعضوية مجلس النقابة لمدة 22عاما متتالية, وذلك فى الفترة من 1968 إلى 1992, وقد كان ديدنه دائما, وبوصلته فى الحياة هو حرية الرأى, والدفاع دائما عن أصحاب الفكر حتى لو إختلفوا معه, أو كفّروه كما حدث كثيرا, لقد دافع عن المتهمين فى قضايا التكفير والهجرة وقضايا الجهاد والإخوان المسلمين وجميع قضهيا الرأى والفكر فى مصر وأدى به ذلك الى الإختلاف مع رفاقه وأصحاب مسيرته, وهو ما حدث بالفعل حين إنفصل عنهم عند هذه النقطة تحديدا, منشقا عن الحزب الأم, مشكلا "حزب الشعب الإشتراكى" فى عام 1987 ليستمر فى التعايش مع مبادئه فى الدفاع عن المختلفين معه فى الرأى من الجماعات الإسلامية المتطرفة والإخوان المسلمين تحديدا, وكل صاحب رأى أو فكر.
لذا فلم يكن من المستغرب أن يودعه الجميع بكل المحبة والتقدير, فقد ضمت جنازته جميع ألوان الطيف السياسى فى مصر, من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين, كان فى وداعه التروتسكيين والشيوعيين والناصريين والليبراليين والإخوان والمتشددين دينيا, وأيضا ممثلين للحزب الوطنى الحاكم.
وقد كان الفقيد يملك روح دعابة متميزة, يفلسف فيها الظروف القاسية للتخفيف عن الرفاق فى محنتهم, يذكر أنه فى الأوردى وتحت طائلة الجوع , كون فريقا من الرفاق ينحتون القشر المتبقى من البطيخ وأطلق عليهم إسم"فريق النحت الذهبى", وأنشأ كذلك بنفس السجن مجلة هوائية يومية ,ضمّنها موضوعات سياسية وثقافية وفنية وفكاهية, وشارك فيها كل المساجين.
هكذا انطوت صفحة مضيئة من صفحات النضال الوطنى, وترجل القديس النبيل من فوق صهوة جواده فى جلال ومهابة, راحلا فى صمت كما عاش فى صمت, آخر فرسان هذا الزمان.
طبت حيا وميتا يا رفيق.


صفحات من حياة ( أحمد نبيل الهلالي)
• الأسم: أحمد نبيل الهلالي • نجل نجيب باشا الهلالي أخر رئيس وزراء للدولة المصرية فى العهد الملكي• من مواليد 7/8/1928 • حاصل على ليسانس الحقوق عام 1949 واشتغل بالمحاماة من هذا التاريخ • انتخب عضوا فى مجلس نقابة المحامين فى الدورات المتتالية منذ عام 1968 حتى 1992 • انضم للحركة الشيوعية المصرية منذ 1948 وكان أحد كوادر الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى"حدتو"• اعتقل مطلع عام 1959 واستمر الاعتقال لمدة خمس سنوات ثم اعتقل مرة أخري عام 1965 ورفض التوقيع على حل التنظيم شرطا للإفراج عنه واستمر الاعتقال أربع سنوات.• له مؤلفات منها كتاب حرية الفكر والعقيدة .. تلك هى القضية وهو عبارة عن مرافعة قانونية وسياسية فى قضية الحزب الشيوعي المصري عام 1981 والتى كان هو أحد المتهمين فيها وكتابه الأخير هو "اليسار الشيوعي المفتري عليه.. ولعبة خلط الأوراق"وهو عبارة عن ردود على الأكاذيب التى استخدمتها الرجعية المصرية فى حربها ضد الشيوعيين المصريين.• اعتبر مكتبه مقصداً لكل العمال والمقهورين بالإضافة إلى شهرته الذائعة فى الدفاع عن الخصوم السياسيين للسلطة المصرية وخاصة دفاعه عن أعضاء الجماعات الإسلامية وتيار الإسلام السياسي عموماً،أشهرها مرافعته عن المتهمين فى قضية أغتيال رئيس مجلس الشعب الآسبق "د.رفعت المحجوب" ومرافعته فى قضية" الدكتور عمرو عبد الرحمن" بالإضافة إلى مرافعاته فى القضايا العامة مثل قضية أحداث يناير 1977 وقضية إضراب السكة الحديد عام 1986 وقضية حريق قطار الصعيد،ومرافعته فى قضية المستشاريين "هشام البسطاويسي" و"أحمد مكي" وغيرها من القضايا العامة.• توفي فى يونيو عام 2006