Thursday, June 18, 2009

دكان شحاتة .. والواقعية المصرية


لاشك أن ما يصنعه "خالد يوسف" وكوكبة من السينمائيين المصريين يعد فتحا جديدا فى تاريخ السينما المصرية والتى تجاوز عمرها المائة عام.
فكما شق روسيللينى وفيسكونتى ودى سيكا الطريق الى الواقعية الإيطالية فى أربعينيات القرن الماضي والتى تميزت بنزوعها نحو تصوير الواقع كما هو بأدوات إنتاجية بسيطة وبممثلين فى الأغلب غير محترفين والتى نزعت الى التصوير الخارجي أو الميداني.
على أن سمات هذا الشكل الواقعي الحديث فى السينما المصرية هو اختفاء اللقطات الطويلة الثابتة والديالوجات الطويلة لحساب سرعة حركة الكاميرا وتطور المونتاج, كما لم يعد للرقصات والأغاني الطويلة مكان وصار الإعتماد أكثر على الكليب المصور مع خروج الكاميرا أكثر ورصدا حركة الشارع فيما يشبه اللقطات التسجيلية والوثائقية, وكذلك التجرؤ على المحرمات الثلاث ( الجنس والدين والسياسة ), وقد شق هذا الطريق باقتدار المخرج العالمى يوسف شاهين فى مرحلته السينمائية الأخيرة, وأكمله مجموعة متميزة من المخرجين الشبان وعلى رأسهم خالد يوسف والذى ما زال يغرد بعيدا على القمة, مستفيدا من إمكانية حرفية عالية, وتوظيف لهذه الإمكانيات بأعلى درجة, مع رؤية درامية منسجمة مع فكره السياسى الذى يعلنه بصراحة ووضوح دائما, وإقتحامه المباشر للأحداث الساخنة والملغومة بجرأة يحسد عليها, مع إستفادته من مستوى عال من التأليف السينمائى لناصر عبد الرحمن, الذى كتب له سلسلة أفلامه الأخيرة ومنها "دكان شحاتة". ومع متابعتنا لشريط الفيلم نجد أن أعلى منطقة فيه هى الربع ساعة الأولى مع نزول تتر الفيلم ومانشيتات الصحف واللقطات الثابتة للأحداث السياسية والإجتماعية التى مرّت بها مصر منذ نهاية عصر السادات وبدأ الشريط بالعنبرة فى السجن احتفالا بخروج شحاتة بعد انتهاء سجنه, وبخروج "شحاتة" وصدمته الأولى بإقتحام الجياع لقطار يحمل شحنة قمح مع عجز الأمن المركزى عن التدخل, تبدأ الدهشة أو الصدمة الأولى بحجم التغيير.
على أن خالد يوسف كعادته فى أفلامه السياسية الأخيرة ( فوضى وميسرة) يحاول أن يحشد كل ما يشغله من موضوعات وما يراه من مشاكل فى شريط واحد, هذه المشاكل التى تتعلق بانهيار القيم وتدهور الإقتصاد والتخلف الإجتماعى, متمثلا ذلك فى انهيار الخدمات الصحية (وفاة أم شحاتة, مرضى الأورام...), والتعليم (تحرش الأساتذة بالطالبات والدروس الخصوصية....), العنف ضد المرأة (مشهد فض بكارة بيسة, ميراث المرأة...), الفساد السياسى (تزوير الإنتخابات, التطبيع...), الإنهيار الإقتصادى والقيمى (بيع مياه الشرب بالقرى, معارك الخبز....), وعشرات الموضوعات (العبّارة, الدويقة, حريق مسرح بنى سويف, اقتحام معبر رفح, حريق قطار الصعيد, أحداث الأمن المركزي...).
تم حشر كل هذه الموضوعات وغيرها الكثير من خلال فيلم حوالى الساعتين متناولا مساحة زمنية تمتد من 1981إلى 2013 حيث ينتهي الفيلم بصورة شديدة السوداوية لعمليات قتال بالجملة فى الشوارع يشارك فيها الجميع ضد الجميع بالأسلحة البيضاء, فيما يشبه الحرب الأهلية, وبطريقة تبشر بالخراب القادم فى الأعوام القليلة القادمة بطريقة شديدة التشاؤم مع عدم رؤية أى بصيص ضوء فى نهاية النفق.
يرمز المؤلف والمخرج بالطبع بالدكان الى مصر, والتى تركها الأب أمانة فى يد أبنائه, ليبيعها ابناؤه الأشرار بواسطة الغير(ابن الدكتور مؤنس) القادم من وراء المحيط (أمريكا؟), الى عدوهم, ليرتفع عليها العلم الإسرائيلى كسفارة للإسرائيل فى مصر, بعد أن استلبوا ميراث أخوهم الطيب واغتصبوا خطيبته.
والفيلم عبارة عن خلطة مكثفة من العنف والجنس كتوليفة تجارية ناجحة تم استخدامها بتقنية عالية لإحداث أكبر فرقعة وجذب المتفرج الى شباك التذاكر, الجنس الذى جسّدته أحدى اشهررموز الإغراء فى العالم العربي (هيفاء وهبي ) بطريقة مقحمة ومفتعلة, مثل الرقصة الخليعة لخطيبها وهى البنت الصعيدية أو الحلم الذى جمعهما فى السرير معا.
كما كان للعنف والمعارك المجانية وغير المبررة نصيب كبير فى الفيلم, استعرض فيها المخرج مواهبه الفنية بطريقة مبالغ فيها, فهذا الإنسان الطيب الى حد البلاهة "شحاتة" يفاجئنا بإمكانيات قتالية غير عادية, لا ندرى متى وأين تعلمها, حتى أن شخصية هامشية مثل" البرص" يملك أيضا مواهب قتالية استعراضية, معارك يعمد المخرج الى إقحامها على الفيلم بمناسبة ودون مناسبة.
القصة كما حاول المخرج والمؤلف الايحاء بها هى توليفة من قصة سيدنا يوسف وإخوته, وتفضيل الأب لأحد أبنائه على بقية اخوته, مما أوغر صدورهم عليه, وأشعل الرغبة فى الانتقام منه, ومن قصة قابيل وهابيل, أو الشر فى مقابلة الخير, وغيرها.
حاول خالد يوسف فى هذا الفيلم كما فى أفلامه السابقة أن يؤكد وجهة نظره السياسية, وهى وجهة نظر أحادية الجانب وساذجة, وملخصها أنه بوفاة عبد الناصر وصعود السادات الى السلطة أنهار كل شيء, الاقتصاد والسياسة والقيم والأخلاق, والذى لم يدركه أنه وبرغم الفروق بين الرجلين الا ان الثانى هو امتداد للأول بصورة أخرى, وأن التطور التاريخى عملية معقدة لا تتم بشكل مباشر ولكن بشكل حلزوني صاعد, عموما ليس هذا مجال التنظير, ولكن احتفاظ الأب بصورة عبد الناصر, ومحاولة الابن أن يغطى بها الشرخ الذى أحدثه السادات فى جدار مصرولكن الشرخ كان أكبر من أن تغطيه صورة الزعيم , ومشهد شحاتة وهو ينظر الى صورة عبد الناصر فى ويقول(وحشتنى قوى يا بوى).
عموما يحسب لهذا الفيلم الكاميرا الجميلة والمتقنة لأيمن ابو المكارم, وكذلك ديكور حامد حمدان الذى جسد من خلال الدكان والقصر فى صور متقابلة وحقيقية, أما التمثيل فقد أجاد محمود حميدة فى دور الأب حجاج, وغادة عبد الرازق فى دور الأخت المغلوبة على أمرها نجاح, وأعجبنى كذلك صبرى فواز فى دور "طلب",أيضا رامى غيط فى دور " البرص", كما لعبت موسيقى يحيى الموجى وغناء أحمد سعد دورا شديد الحيوية فى الفيلم , كما كان لأشعار "جمال بخيت الرائعة والتى فاجئتنا بقوتها وقسوتها معا دورا أساسيا فى إكمال الإحساس بالواقعية المجردة..
سقطت هيفاء وهبى فى أول إختبار لها على الشاشة, وعموما فقد وظّفها المخرج كعنصر إغراء وجذب الى شباك التذاكر, ولكنها لم تستطع أن تملأ هذا الدور, شتان بينها وبين الفنانة المبدعة هند رستم فى أعمال مثل "باب الحديد", ولكن مما يحسب لهذه الممثلة أنها تحاول رغم محدودية موهبتها أن يكون لها مكان على الساحة الفنية, من خلال ذكائها الإجتماعى واستغلال إمكانياتها الجسدية, كما كان عمرو سعد أشبه بالبلهاء والمغيب عن الواقع المحيط به, ولم يقنع أحدا بدور الطيبة الذى حاول المخرج أن يرسمه له, بل كان أشبه بالمتخلفين عقليا, وجاء تقليده لأحمد زكى فى المشاهد الأخيرة باهتا.ا.
كذلك فإن تصميم المخرج أن يجعل من فنان جيد مثل عمرو عبد الجليل بلياتشو أو مهرج من حيث طريقة النطق بكلمات مقلوبة وغير مفهومة تماما كما صنع معه في فيلم حين ميسرة هو شيئ سيئ ويحسب عليه وليس له.
كما أن لقطة الدراويش فى حلقة الذكر وتشتيتهم البصرى بسيقان هيفاء وهبى لم يكن لهذه اللقطة داعى, وكان من الأفضل حذفها فى المونتاج مع عدم التأثير على الفيلم.
على أن الفيلم ومخرجه حاولا أيضا أن ملامسة ميلودراميات يوسف بك وهبى ان يحاول إستدرار الدموع فى مشهد النهاية, استكمالا لتيمة الفيلم التجارية.
على أن الفيلم بمحمله جيد ويعد نقطة هامة فى تطور السينما, وعلامة مضيئة على السينما الجديدة فى مصر.
خلاصة القول فإن الشجر المثمر وحده هو ما يتعرض للقذف بالأحجار, ولولا أن هذا الفيلم جاد وجيد لما استحق كل ذلك الجدل.
فى النهاية خالد يوسف شكرا.

Tuesday, June 16, 2009

جريشة..حكاية بطل شعبى




دائما ما يحلم الفقراء بالمخلّص, البطل القادم من وراء الغيب, الذى ينتقم لهم من ظالميهم, ويأخذ لهم بثأرهم من مغتصبيهم, وقد إبتدعت الشعوب هذه الشخصيات الأسطورية منذ أقدم العصور, أوزوريس في الأسطورة الفرعونية, وجلجامش في البابلية, وشمشون في الميثالوجيا التوراتية, وهرقل في الأسطورة اليونانية, وأبو زيد في تغريبة بني هلال, والأمثلة لا نهاية لها.
وفى الحلم الشعبي فإن البطل دائما قريبا منهم, من نفس مستواهم االطبقى, وهو دائما يمثل الخير فى مواجهة الشر, و الذي ينتصردائما فى النهاية .
على أن بطلنا هذه المرة هو بطل حقيقي, وليس من صنع الفقراء, إنه إنسان بسيط من سكان حي كرموز الشعبي بمدينة الإسكندرية, لم يتعلم فى مدرسة أو جامعة, بل علمته الحياة بكل مرارتها وقسوتها, وتعلم من الشارع ومن ظلم البشر, الغريب أن هذه الحياة القاسية التى عاشها لم تجعل منه انسانا عدوانيا , بل عاش حنوا على أبناء منطقته جميعا, فقيرهم وغنيهم, ضعيفهم وقويهم, بلا تمييز ولا إستثناء.
عاش "جريشة" يتيم الأبوين, لم يكفله أو يربيه أحدا, نشأ كنبت شيطانى, يحن عليه البعض ويركله البعض بأقدامهم, عرف ليالى الجوع الطويلة, نام فى برد يناير على الرصيف, وتعرض لكل أنواع الإيذاء والتحرش,
وتعلم أن ينتزع لقمته من فم الذئاب, اشتغل فى أحط وأدنى الأعمال, فى الخدمة بالمنازل, وفى مسح الأحذية, وفى جمع القمامة وغيرها.
عندما شب عن الطوق بدأ بسرقات صغيرة, كاسيت سيارة, ثياب من على حبل غسيل, لكنه لم يتجرأ على النشل, أو سرقة البيوت, إلى أن عرف طريق الجمرك, وبدأت السرقة من السفن الراسية بالميناء تستهويه, لامست فيه روح المغامرة والمخاطرة والمكسب السريع, سرعان ما على صيته وسطع نجمه, وأصبح واحدا من لصوص الجمرك المشهورين.
تعرض لملاحقة رجال الشرطة, ودخل سجلاتهم كمسجل خطر, أصبح مطاردا, وتحولت حياته الى هارب, فى النهار يعيش فى حيّه ومنطقته محاطا بالناس, وينام بالليل فى مقابر العمود القريبة, والتى تتحول ليلا الى أوكار لعتاة المجرمين, لاتجرأ الشرطة الدخول اليها.
الناس هنا لاتعتبر السرقة من الجمرك خروجا على القانون, بل هذا النوع من اللصوص فى نظرهم أبطالا, أصبح جريشة أشبه بالبطل الشعبى "روبن هود" يوزع حصيلته من السرقات على أبناء منطقته, واشتهر بينهم بالطيبة, يضفى حمايته على الجميع, يحمى بنات حيه من مضايقات الطفوليين, ويحمى سكان المنطقة من عدوان الأراذل, أشبه بعاشور الناجى فى حرافيش "نجيب محفوظ", يحتمى بالفقراء ويحميهم.
فى إحدى الليالى حضرت حفلا شعبيا فوق سطح أحد البيوت هناك, سبوع مولود أقامه قهوجى من المنطقة, كان جريشة ورفاقه حاضرين, عندما بدأ المطرب الشعبى بالغناء, إعتلى جريشة الخشبة, وأمسك بالميكروفون وسط تهليل الجميع (
النقطة دى من جريشة, ومن كل حرامية الجمرك, الرجالة الى بتخطف الجنية من ماسورة البندقية , وأخذ يرمى بالعملات الورقية الكبيرة تحية للفرح وأصحابه.
كان نشاطه بالليل, وفى النهار تراه جالسا على مقهى فى الحى, يوزع ابتساماته وتحياته على الجميع, عندما يشاهد أطفالا يلعبون الكرة الشراب سرعان ما ينزل للعب معهم, وفى نهاية الماتش يشترى صينية بسبوسة, أو صندوق كوكاكولا يوزعه عليهم, وإذا شاهد بائع خس أو فجل يشترى منه كل ما معه, ويوزعه على السكان مجانا।
لم يكن يؤذى أحدا, أو يضمر شرا لأحد, حكى لى "عبد المجيد الخولى" أحد فلاحى "كمشيش" فى سنوات الإبعاد, أنه إشتغل خفيرا لمخزن مواد بناء, وفى إحدى الليالى قبيل الفجر جاءه شخص وحياه, عرّفه بنفسه, كان هو جريشة, قال له أنه بصراحة يمر ببعض الظروف وأنه جاء لسرقة حديد تسليح من المخزن, ولا يريد أن يتعرض له بسوء, بعد حوار قصير اقنعه اعبدالمجيد أنه بفعلته هذه سيضّره, رجع عما إنتواه, وسهر معه ليلتها حتى الصباح
عندما عين للمنطقة ضابط مباحث جديد عرف عنه القسوة والعنف, كان هذا الضابط مصمما على الإيقاع بلصوص الجمرك فى منطقته, حاول أكثر من مرة أن ينصب كمينا لجريشة لكنه فشل, كان جريشة كالثعلب شديد الإحتياط, إحتال الضابط عليه عن طريق إحد البنات الائى يصاحبهن, إستطاعت أن تستدرجه ليلا من المقابر, لم يكن فى نية هذا الضابط القبض عليه, عاجله برصاصة فى رأسه, سكنت بين عينيه
إنطلق الخبر فى شوارع كرموز بسرعة البرق, (جريشة قتلوه), وفجأة وبدون ترتيب إنطلق صراخ النساء فى البيوت, ونزل الرجال والأطفال الى الشوارع, شكلوا مظاهرة كبيرة الى نقطة "الفراهدة" فأحرقوها, ثم إستدار المتظاهرون الى قسم "كرموز" ليشعلوا فيه النار, يحكى لى صديق من سكان الحى أن أمه السيدة الكبيرة التى لم تكن تنزل الى الشارع, نزلت فى هذا اليوم تولول وتهيل التراب على رأسها.
أعلن حظر التجول بالمنطقة, ونزلت قوات الأمن المركزى الى الشوارع للسيطرة على الوضع, قبض على العشرات ورحّلوا الى سجن الحضرة بدون تحقيق, وإكتست المنطقة كلها بالسواد, وفى الجنازة تم القبض على جميع المشاركين, أعلن رفاقه على قبره أنهم سينتقمون من قاتله, ونصّبوا شقيقه "العربى" خليفة له.

قصيدة لم تكتب فى رثاء "جريشة" :

الفاتحة له
عاش.. زى دكر النحل
مات ..زى دكر النحل
نعشه.. يدوبك ع الطريق فايت
باع عمره للكيف والضيوف
كان كل من حياه صديقه
وصحابه يغديهم بلحم الكتوف.

فى جنازته بكيت فيه بنات الحارة
لبست عليه سعدية توب الحداد
وعاصت الندابة بالطين القديم جبهتها
- سعدية ما زالت حورية وإنت فين رايح
سعدية مين بعدك يعول بيتها

Tuesday, June 09, 2009

غنائيات



الأرض دى بتطرح نخيل عملاق
وشجر عفى.......وسنابل
الشمس تغرب, هيه ما تنطفى
لكن ما بال فيها الرجال
نشفهم الخوف...والهزال...
مرّت سنين صبر وسنين حكمة وسنين إرغام
وما تزال السطوة كل السطوة للحكام
ولا يزال الطيبين يتكربجوا
فى حلمهم بمكان تحت الشمس
* * *
يا بلاد رمتنا للأسى والموات
ما عادشى حتى للسكات طعمه
لإننا بنموت فى نفس اللحظة ميت مرّة

إمتى الرجال الناشفة تنفض خوفها
وتقف تكتل صفوفها
كفى, أضمه لكفوفها
نهد ونقيم من جديد
بلاد
بلاد بلا سجن وبلا جلاّد
بلاد بلا سادة وعبيد
* * *
يابلادى
والإصباح عيون وأيادى
إذا ما عدّى ع الوادى
حيزيح قصاده كل ليل ميت

تتفتح الأبواب
تدب الرعشة فى عروقها لنور الشمس

حنغنى
كما لو كنا بنغنى لأول مرة
ونحب
كما لو كنا ما حبينا بالمرة

يتقابلوا الأصحاب من بعد غيبة طويلة
نفس الإدين المعروقين
نفس العيدان النحيلة
اللى حترسم من جديد
سكة حياة للوطن

شعر محمد سيف

Sunday, June 07, 2009

سلطنة عمان..وتوليفة التسامح


لمدة تزيد عن 20 عاما عملتها فى سلطنة عمان, أدّعى أننى قد كونت خبرة ليست قليلة عن هذه الدولة الفتية, ولا أزعم أن ما تراكم من خبرات كله إيجابى, الا أن أكثر ما أثار إنتباهى هى هذه التوليفة العبقرية للتسامح تجاه الذات والآخر التى تشكل نسيجا عضويا فى التركيبة العمانية.
بداية فإن الواقع العمانى يتركب من فسيفساء عرقية وإثنية ومذهبية وقبلية شديدة التعقيد, وذلك بسبب الخلفية التاريخية التى تحكم هذا المشهد, فقد احتل البرتغاليين بقيادة البوكيرك عمان فى بدايات القرن السادس عشر واستمر هذا الاحتلال حتى قيام دولة اليعاربة بقيادة الامام "ناصر بن مرشد" الذى إستطاع وابناؤه من بعده طرد النفوذ البرتغالى من سواحل عمان وطاردوه فى الساحل الافريقى وسواحل الهند وفارس.
وبقيام حكم اسرة البوسعيديين بقيادة "أحمد بن سعيد" عام 1738م وإستخدام تسمية السلطنة بدلا من الإمامة بدأت الدولة العمانية فى الإستقرار وتوقفت النزاعات الداخلية, وتم بناء اسطول بحرى قوى استطاع السيطرة على المياه فى المحيط الهندى وتثبيت سيطرته على الساحل الإفريقى فى زنجبار ومومباسا, وبوفاته ونشوب الصراع بين أبنائه على السلطة قويت شوكة الإمامة مرة أخرى وإشتعلت الحروب ليعود نظام الإمامة حينا والسلطنة أحيانا حتى توقيع إتفاقية السيب عام 1920 بوساطة انجليزية والتى تم بمقتضاها تقسيم البلاد بين عمان الساحل تحت سلطة السلطان وعاصمتها مسقط وعمان الداخل تحت سيطرة الأئمة وعاصمتها نزوى. وفى عام 1932م اعتلى الحكم السلطان "سعيد بن تيمور" والذى أكمل تعليمه فى الهند, وفى عهده استمر تدهور الأوضاع واحتدام الصراع مع نظام الإمامة وأغلقت البلاد عن جوارها مع وجود نظام حكم أوتوقراطى بالغ فى استبداده وتخلفه ليحظر على المواطنين الصحف و الراديو والتدخين ومنعهم من التعليم أو السفر او حتى من بناء بيوتا لهم.
فى ظل هكذا أوضاع كان لابد أن تنفجر البلاد ويثور الناس, فعمت الصراعات لتشمل الساحل والصحراء, الشمال والجنوب, الحضر والريف,
واندلعت الثورة فى ظفار.
كانت ظفار وهى أقصى الأقاليم فى جنوب البلاد تحت حكم السلطان اسميا, ولكنها كان دائما لها درجة عالية من الخصوصية وتتمتع بنوع من الحكم الذاتى, وسكانها حادى الطباع, ذوى انفة وعزة نفس, يسمونهم فى عمان "الجبّالة" لسكناهم الجبال, وكانوا دائمى التمرد على المركز, وكان السلطان "سعيد بن تيمور" يقيم بصفة شبه دائمة فى صلالة, وكانت زوجته والدة ابنه قابوس من قبيلة ظفارية, ناهيك عن إعتدال مناخها, وبعدها عن المشاكل فى مسقط.
ولكن فى عام 1963 تجمعت فى هذا المكان ثلاث منظمات صغيرة متمردة فى هى " حركة القوميون العرب"و "الجمعية الخيرية العمانية" و "منظمة الجنود الظفاريين" ليندمجوا معا مشكلين (الجبهة الشعبية لتحرير ظفار) ذات الميول اليسارية, والتى خاضت حربا لا هوادة فيها ضد نظام الحكم بتأييد من الصين ثم الإتحاد السوفيتى والنظام الشيوعى الحاكم فى عدن, وبعض الأنظمة الراديكالية العربية, لتستطيع الجبهة السيطرة على أجزاء كبيرة من اقليم ظفار ولتحاصر السلطان فى مدينة صلالة.
وقد لاقت هذه الجبهة تأييداً واسعاً من مختلف القطاعات نتيجة حالة البؤس والحرمان والضنك الذي كانت تعيشه البلاد. وقد حققت أفواج هذه الثورة انتصارات كبيرة وكادت تقضي على السلطان سعيد بن تيمور فى محاولة إغتيال.
فى ظل هذه الأوضاع المتردية إستطاع الإبن الأوحد للسلطان سعيد أن يدبر إنقلابا على أبيه من داخل سجنه ( كان سعيد بن تيمور قد سجن ابنه قابوس فور عودته من دراسته العسكرية بكلية "ساند هيرست" فى لندن خوفا منه ولإستشعاره ان له ميولا فكرية مع ثوار ظفار).
بعد توليه الحكم في 23 تموز 1970بادر السلطان قابوس إلى جعل اسم «سلطنة عمان» الإسم الرسمي لدولته، وعمد إلى نهج سياسة جديدة قائمة على إزالة كل مظاهر التخلف الشديد التي طبعت عهد السلطان سعيد، والانفتاح على العواصم العربية والأجنبية. وأراد أن يخرج الجيش العماني من مأزقه، فطلب دعماً من الأردن، ثم من المملكة العربية السعودية، وكذلك من باكستان، وفي عام 1973 أرسل شاه إيران حملة عسكرية من آلاف الجنود (مزودة بطائرات هيليكوبتر وسفن حربية)، فنزل قسم منهم في صلالة عاصمة ظفار. وبدأت المعارك مع الثوار. وفي أقل من سنتين، تمكن السلطان قابوس مع هذه القوات من القضاء نهائياً على هذه الثورة الوليدة وليعلن إنتهاء الثورة المسلحة بشكل نهائي فى 1975م وتطوى صفحة ناصعة من النضال الثورى شارك فيها عشرات المتطوعين من الدول العربية.
وقد أعلن السلطان قابوس خلال هذه الفترة أكثر من مرة العفو العام (1972) وحاول صادقا استيعاب خصومه فى جهاز الدولة مثل الدكتور رجب حافظ سلامة من زعماء الجبهة أول وزير للزراعة (إن لم تخوننى الذاكرة) ويوسف بن علوى الذى ما زال يشغل حقيبة الخارجية حتى الآن وكان قائد فصيل الجمعية الخيرية العمانية قبل الإندماج لتشكيل الجبهة.
كما استطاعت سياسة التسامح الحكيمة لجلالة السلطان ان تستوعب الخصوم من جبهة الإمامة وتم تعيين عدد من الولاة والسفراء منهم كما تم تعيين الشيخ العلامة" أحمد الخليلى" على رأس السلطة الدينية كمفتى عام للسلطنة.
على أن أهم ما ميز هذه السياسة هو القدر الواسع من التسامح الدينى, فبالرغم من اعتبار المذهب الإباضى هو المذهب الرسمى للدولة (وهو من أقدم المذاهب الإسلامية ويتسم بالتشدد, وتم الإعتراف به فى ملتقى العالم الإسلامى كثامن المذاهب الإسلامية*), إلاّ أن السياسة الدينية بوجه عام تجاه المذاهب الإسلامية الأخرى ظلت متسامحة الى أقصى الحدود, خاصة تجاه المذاهب السنية الأربعة التى يدين بها معظم أهل عمان.
كما يحظى الشيعة فى عمان وهم أقلية دينية بتمثيل واسع فى جهاز الحكم وفى المجتمع, ويتم الإحتفال بأعياد الشيعة على أعلى مستوى, ويرفع الآذان من على مآذن مساجدهم (أشهد أن محمدا رسول الله, وأشهد أن عليا أمير المؤمنين ولى الله).
كذلك يتعايش المجتمع مع البهائيين بحب وتسامح, يحيون أعيادهم بحرية ويمارسون شعائرهم فى محافلهم بنفس الحرية, كما تكتب ديانتهم فى الجوازات والبطاقات دون أدنى حساسيات.
حتى المسيحيون يؤدون صلواتهم فى كنائسهم بدون مشاكل, وترتفع أجراس الكنائس شاهدة على ذلك, و أصحاب الديانات الأرضية كالهندوس يمارسون طقوس حياتهم بكل حرية, لا يتدخل أحد فى ما يؤمنون به.
كما أن عبيد وإماء الأمس يحيون أحرارا ويشاركون فى بناء وطنهم دون تمييز أو طبقية, يشغلون أعلى المناصب فى الجهازين المدنى والعسكرى.
بالله عليكم الا يستحق أن نوجه تحية إحترام وتقدير لهذا الشعب وقيادته.
المذاهب الإسلامية المعتمدة هى أربعة مذاهب للسنة وثلاث للشيعة بالإضافة للمذهب *