Wednesday, November 11, 2009

لماذا تطالب الحكومة المصرية بعودة الآثار المسروقة ولا تطالب بعودة رفات عبد الله النديم ؟




الموّال
..
يا لولا دقة إيديكى ما انطرَق بابى

طول عمرى عارى البدن.. وإنتى جلبابى
.
ياللى سهرتى الليالى يونّسِك صوتى



متونِّسة بحسّ مين يا مصر فى غيابى؟
.......
أدباتى أراجوز نديم أهلى وخلانى

زجّال مهرِّج مركّب صوتى فى لسانى



وصحيت لقيتنى اعرفك وإنتى عارفانى



جرّانى من موكب الضايعين وحطانى



على أعلى منبر يهزِّك صوتى ولسانى


ياللى فطمتى النديم ردّيه صغير السنّ

بسكّت الجرح يسكت ينطق التانى

الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى
■ ■ ■


أثارت وزارتى الثقافة والخارجية المصريتين جلبة واسعة حول ضرورة اعادة بعض الآثار التى تم سرقتها من قبل بعض لصوص الآثار والتى تم عرضها بمتحف اللوفر فى باريس، وصرح زاهى حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بوقف التعاون مع متحف اللوفر حتى عودة الآثار المسروقة، ووقف اعمال بعثة اللوفر فى مصر، وصدر بيان عن متحف اللوفر يعلن فيه أنه بصدد اعادة هذه الآثار।
إن قصة سرقة الآثار المصرية قديمة ومكررة، منذ زمن عهود الفراعنة وحتى الآن، وقصص لصوص المقابر قديمة قدم الفراعنة، ولكن الطريف هو اهتمام الفاتحين العرب بالإستيلاء على ما تحتويه هذه المقابر الفرعونية، ومنها اصدار عمرو بن العاص اول والى على مصر فى عهد عمر بن الخطاب مرسوما بمعاقبة اى مصرى يخفى كنزا أو "خبيئة" مما توجد فى باطن الأرض، وتسليمها له، بل الأطرف ما قام به الخليفة المأمون بن هارون الرشيد على الرغم من عظم ثراء الدولة العباسية فى هذا الزمن، من استقدام عمال مدربين لإحداث فتحة فى هرم خوفو بقصد الحصول على كنوز الفرعون الموجودة به، هذه الفتحة التى ما تزال توجد وتستخدم حتى الآن باسم فتحة المأمون.
ولكن النهب الأكبر والمنظم تم فى القرن التاسع عشر، وخاصة بعد صدور كتاب "وصف مصر" بواسطة علماء الحملة الفرنسية، حيث بدأ اهتمام الغرب المكثف بالآثار المصرية، وبدأ المغامرون والأفاقون والتجار فى أكبر عملية نهب منظم لهذه الآثار تحت سمع وبصر الحكومات المتعاقبة منذ حكم محمد على وحتى الآن، ويجادل البعض بأن بقاء هذه الآثار فى متاحف العالم المختلفة مفيد من حيث أن الملايين يشاهدونها ليدركوا أهمية هذه الآثار وعظمة وتفوق تاريخنا الغابر وأنها أفضل وسيلة لجذب السائحين لزيارة مصر، ولكن هذا لا ينفى أهمية العمل على إسترداد هذه التحف الأثرية الى بلادنا للعرض فى متاحفها الأصلية ويمكن عرض نماذج منها بشكل منظم فى مختلف البلدان، ولعل وجود المسلات المصرية شامخة فى أهم العواصم العالمية دليلا على هذه العظمة، وعلينا العمل بإستمرار على إعادة هذه الآثار الى مصر وعلى رأسها رأس نفرتيتى المعروضة فى متحف برلين وحجر رشيد القابع فى متحف لندن.
هذه القضية بالرغم من أهميتها لا تنفى قضية أخرى مهمة وهى السعى لحث الحكومة المصرية على المطالبة بعودة رفات النديم ليدفن فى أرض مصر مسقط رأسه والتى أفنى عمره دفاعا عنها وفى سبيل تحررها ونهضتها.
ولد عبد الله النديم بقرية الطيبة بمحافظة الشرقية عام 1845 وتربى وترعرع بمدينة الأسكندرية التى إنتقل اليها والده للعمل بترسانتها حيث كان يعمل نجارا، وقد لمح ابوه فيه علامات النبوغ فألحقه بمسجد ابراهيم بالأسكندرية ليتلقى العلوم الدينية ولكن اهتمام الفتى بالأدب جعله يتجه الى كتابة الشعر والزجل واهمال الدراسة الدينية ليتحول بعدها الى دراسة التلغراف هذا الوافد الجديد وذلك ليكتسب صنعة يتعيش منها، ثم عمل فترة فى مكتب للتلغراف بمدينة بنها بعدها انتقل للعمل فى قصر الوالدة باشا أم الخديوى إسماعيل، حيث اعطاه وجوده فى القاهرة الفرصة ليتعرف برجالات الأدب والفن والثقافة ولكن روحه المتمردة على الوظيفة سرعان ما أدت به الى الإصطدام بالرجل القوى فى القصر "خليل أغا" و أدى ذلك الى فصله من وظيفته، فيذهب الى المنصورة ليعمل فى التجارة، ولا يستقر بها طويلا حيث يتنقل بين عدة مدن فى الدلتا ليستقر به المقام أخيرا بالأسكندرية مرة أخرى فى عام1876 إبان صعود الحركة الوطنية لينخرط فى أتونها وينضم الى منظمة وطنية سرية متطرفة عرفت بإسم "مصر الفتاة" تطرح مشروعا للإصلاح الوطنى والدستورى، وينشط فى الكتابة فى الصحف التى بدأت فى الإنتشار فى عهد الخديوى إسماعيل داعيا الى تحرير الارادة المصرية من ربقة النفوذ الأجنبى، ويشارك فى تأسيس "الجمعية الخيرية الإسلامية" ويتولى إدارة مدرستها بالأسكندرية وينشأ حركة مسرحية بالمدرسة ويقوم بتأليف وعرض العديد من المسرحيات منها مسرحيته "الوطن" ويساهم فى تأسيس الحزب الوطنى الذى سيقود حركة الكفاح المصرية خلال العقود المقبلة.
وفى صيف سنة 1881 أصدر الرجل صحيفة أسبوعية أسماها " التتكيت والتبكيت " انتهجت خطا وطنياً واضحاً وأسلوباً أدبياً ساخراً وكان عبدالله النديم مهموماً فى صحفيته بقضية وحدة الوطن واستنهاض همة أبناءه للارتفاع بشأن البلاد وقد تواكب صدور الصحيفة مع أحداث الثورة العرابية فكان من الطبيعى أن ينضم عبدالله النديم إلى صفوف الثورة العرابية ويساند أهدافها الوطنية وقد وجد العرابيون فيه سنداً لهم بكتاباته الوطنية الحماسية وانتقل النديم إلى القاهرة ليكون فى قلب الأحداث والتقى بأحمد عرابى زعيم الثورة حيث طلب منه أن تكون صحيفته لسان حال الثورة بشرط أن يغير اسمها إلى اسم أكثر وقارا يلائم عقلية عرابى العسكرية المحافظة وأصدر عبدالله النديم صحيفة " الطائف " من القاهرة لتحل محل " التنكيب والتبكيت " ولتصبح لسان حال الثورة العرابية وخلال أسابيع قليلة أضحت الطائف أهم الصحف المصرية على الإطلاق.
وخلال الثورة العرابية أو كما يسميها العوام "هوجة عرابى" برز إسم النديم كخطيب للثورة، يلعب الدور الأبرز فى تحريك مشاعر الجماهير والجنود، ويلف البلاد طولها بعرضها محركا ومهيجا وخطيبا لها، والمعبر الأول عن أفكارها.
وبعد انكسار عرابى وفشل الثورة هرب النديم هائما فى قرى مصر وصقوعها متخفيا فى عدة شخصيات يحتمى بالبسطاء من أبناء هذا الشعب فى قصة هروب ملحمية طويلة، لمدة تسع سنوات كاملة قضاها بين أحضان الشعب الذى حماه بالرغم من رصد قوات الإحتلال مكافأة ضخمة (عشرة الآف جنيه ) لمن يدلى بمعلومات تؤدى الى القبض عليه، هذه القصة التى سجلها الكاتب العبقرى للراحل "ابو المعاطى أبو النجا" فى روايته الفريدة العودة الى المنفى، لينتهى به المطاف فى طنطا ويتم القبض عليه وعرضه على وكيل نيابة وطنى هو الشاب وقتها "قاسم أمين" الذى يعانقه ويقبله فى مشهد من أروع مشاهد الوطنية المصرية.
أحب النديم الشعب فأحبه الشعب، وحماه بنور العين حتى أن الكثيرين ممن التقوا بالنديم في تلك الفترة وعرفوه ترفعوا عن الصغائر، ولم يبلغوا عنه، بل ساعدوه على قدر الإمكان، بل أكثر من هذا كان بعض المسئولين في جهاز البوليس يتسترون على النديم إيمانًا بالثورة وحبًا في النديم كإنسان أيضا، فمأمور مركز السنطة يقابل النديم وجهًا لوجه ولا يقبض عليه مخاطرا بوظيفته كمأمور، بل ويمنحه مالا من جيبه ليساعده في هروبه، وكاتب مركز السنطة أيضًا،- وكان النديم مختفيًا في قرية الجميزة مركز السنطة- يعرف أين يوجد النديم فيكتب إليه أبياتاً من الشعر تقول
ولقد نذرت إذا لقيتك سالما لأقبلن مواطئ الأقـــدام
ولأثنين على سجاياك التي حثت على التحرير والإقدام
وبعد القبض على النديم فى طنطا أمر الخديوى توفيق بالعفو عنه لإنقضاء العقوبة ونفاه الى عكا بفلسطين وبعد تولى الخديوى عباس حلمى الثانى الحكم عفا عنه فعاد الى مصر واصدر صحيفة "الاستاذ" ذات الروح الوطنية مما أوغر عليه صدر اللورد كرومر المعتمد البريطانى فيؤمر بنفيه الى الأستانة ، وهناك يواصل نضاله الوطنى ويصاب بمرض السل ليموت وحيدا ويدفن هناك.
تلك الرحلة الطويلة لرائد فذ من رواد الحركة الوطنية المصرية وهب حياته وروحه حتى آخر رمق فى حب هذه الأرض والدفاع عنها ضد سيطرة الأجنبى ورأس المال عليها.
وأخيرا أليس من حق مصر أن تطالب بعودة رفات النديم ليدفن فى أحضان هذا الوطن الذى أعطاه حبه وحياته دفاعا عنه، فى إعتقادى أن حكومة السيد أردوغان لن تمانع فى عودة رفات هذا البطل ليعاد دفنه فى حفل شعبى ورسمى يليق به، أم أنها فقط تطالب بعودة الآثار المسروقة وتنسى تاريخ واحد من أبطال مصر العظام القائل:

أهل البنوكا والأطيان
صاروا على الأعيان أعيان
وابن البلد ماشي عريان
ممعاه ولا حق الدخان

No comments: