وقعت احداث هذه القصة فى"قريات" وهى احدى المدن الصغيرة بسلطنة عمان القريبة من "مسقط" العاصمة، مدينة هادئة لم تلمسها يد التغيير كثيرا، كان هذا فى نهاية الثمانينيات حيث سافرت للعمل بالسلطنة كطبيب، وجاء توزيعى للعمل بها كطبيب وقائى للولاية ( الولاية هى اصغر شكل ادارى و تنقسم السلطنة الى 59 ولاية، يرأس كل ولاية والى ويساعده احد القضاة ويتبعه الشيوخ والرشداء فى القرى المختلفة).
كنت الطبيب المصرى الثالث الذى يفد الى هذه الولاية مع حشد من الأطباء الهنود، وتم استقبالى بشكل طيب من العمانيين وربطت بينى وبين القاضى "أبو سرور"علاقة حميمة وهو من احد اشهر شعراء السلطنة وله زوجة مصرية اصغر من كثير من اولاده، وتقارضنا الشعر كثيرا، وطاب لى المقام بقريات، ونسجت علاقات طيبة مع الجميع خاصة المصريين الذين كان أغلبهم من معلمى المدارس، حيث كنا دائمى الإلتقاء بالمسجد السنى الوحيد( توجد مساجد اخرى للشيعة والأباضية)، وكانت جلستنا الأسبوعية بعد صلاة الجمعة فى المسجد الأباضى حيث لم يكن مسموحا لصلاة الجمعة الا فيه، فى الأغلب يكون هذا اللقاء الأسبوعى فى بيتى.
من خلال هذه العلاقات العديدة كونت عدد قليل من الأصدقاء منهم الطبيبان المصريان بحكم المهنة والإنتماء وبعض المدرسين، وجمعتنا كثيرا لقاءات عائلية مكونين دائرة حميمية صغيرة، وكان من بين هذه الحلقة مدرس اللغة الإنجليزية الأستاذ محمد صلاح ومدرس اللغة العربية والدين الأستاذ محمد خميس وآخرين، كنا نلتقى يوميا بعد صلاة المغرب لنتمشى او نجلس حسب ظروف الجو حتى العشاء.
كانت تمشيتنا عادة على حافة الطريق الصاعد من المدينة فى اتجاه المستشفى وعادة على شكل مجموعات صغيرة من اثنين او ثلاثة ونقطع الطريق فى الحديث، فى هذا اليوم كنت أسير فى المقدمة مع احد المعلمين وخلفى مجموعة ثانية وكان الأستاذ محمد صلاح فى آخر الركب بصحبة الأستاذ محمد خميس متشابكى الأيدى وفى حالة نقاش ساخن يحمل الهواء اصواتهم بلا تمييز، وعندما بدأنا نشعر بالتعب والرطوبة العالية والجو الحار رغم اننا ما زلنا فى بداية الصيف قررت العودة مشيرا الى باقى الزملاء حتى نرجع.
يكمل هذا الجزء من القصة الأستاذ محمد خميس حيث حكى لى ما حدث فيما بعد اثناء سيرهم معا على المساحة الجانبية للطريق متجاورين، متشابكى الأيدى ويميلان برأسيهما على بعض لسماع الحديث حيث السيارات المسرعة تحدث ضجيجا عاليا، كان الاستاذ محمد خميس فى الناحية الداخلية للطريق المحاذية لحركة السيارات بينما الأستاذ محمد صلاح فى الناحية الأخرى، بشكل عفوى وتلقائى تبادلا مواقعهم وانفصلت ايديهم، فى هذه الأثناء كان الأستاذ محمد خميس هو الذى يتحدث، فجأة مرت سيارة مسرعة ولاحظ شيئا يطير فى الفضاء، وجه كلامه للأستاذ محمد صلاح قائلا: باين فيه شنطة طارت من فوق العربية اللى فاتت، والتفت اليه فلم يجده بجواره، كانت السيارة قد صدمت الأستاذ محمد صلاح وطار جسده الخفيف فى الهواء.
انتشر الخبر بسرعة البرق وهرع جميع المصريين المقيمين بالولاية الى المستشفى التى نقل الرجل اليها، كنت قد أدركت منذ البداية انه لا أمل فى إنقاذه فقد اصيب بكسر فى قاع الجمجمة أدى الى نزيف من الأنف والأذن ولكننى لم أصرح بذلك حتى اعلنت الوفاة رسميا بعدها بدقائق فى المستشفى، وكانت صدمة للجميع خصوصا لزوجته واطفاله.
عندما توجهت الشرطة المحلية الى مكان الحادث لتخطيط الجريمة، واثناء المسح وجدوا قطعة زجاج صغيرة من فانوس السيارة المعتدية، عملوا عدة اكمنة على الطريق الوحيد المتجه الى مسقط لعدة أيام حتى أمسكوا بقائد سيارة بها كسر فى زجاج الفانوس الأمامى مطابق لقطعة الزجاج ، بسرعة اعترف المتهم وقبض عليه وحول الى الأمن الداخلى بمسقط.
فى مثل هذه الحالات يظهر قويا تماسك المصريين فى الغربة، لاشك أنه فى الأحوال العادية يحدث تنافس بينهم يؤدى احيانا الى تصرفات عدائية وضغائن ودسّ لدى الرؤساء، ولكنهم فى الظروف الطارئة يظهر معدنهم الحقيقى، قسموا انفسهم الى فرق لإنهاء الإجراءات، البعض يذهب الى الشرطة، آخرين للسفارة، ايضا لوزارة التربية لإنهاء مستحقاته، البعض لشركة التأمين ولمدرسة الأطفال لإجراءات التحويل, آخرين لتجهيز العزاء، ولشركة الطيران للحجز، تجهيز الكفن والمغسّل والصندوق وتفاصيل أخرى كثيرة..... شكلواخلية نحل نشيطة وتوزعوا بعد ان عرف كل فرد دوره بينما بقى لى الإشراف والتنسيق بين الجميع، كانت كل الأخبار تتجمع عندى اول بأول، إصطدمنا بالعقبة الكبيرة فى السفارة المصرية، عادت المجموعة المكلفة بانهاء الإجراءات فى السفارة يحملون رفض ترحيل الجثة الى مصر بحجج غير مفهومة وغير مقنعة من خلال رئيس البعثة التعليمية، قال لهم ان الطبيب الشرعى اكد له ان ظروف الجو وحالة الجثة لا تسمح بنقلها الى مصر.
حدثت ثورة بين المصريين فى قريات وقرروا التحرك، فى تلك الأيام كان لا يوجد فى السلطنة الا طبيب شرعى واحد انجيزى الجنسية هو دكتور "رازرفورد"، توجه الى مسقط اثنين من المعلمين هما أحمد رضوان وجلال وذهبا الى مستشفى الشرطة بمنطقة الخوض لمقابلة الطبيب الشرعى، كان الوقت ظهرا والحر شديدا، أخبرهما احد المناوبين أن الدكتور غادر الى منزله من فترة قصيرة وأعطاهم العنوان حسب طلبهما.
سارا فى شوارع منطقة مرتفاعات القرم مشدوهين، منطقة هادئة وراقية بها مجموعة من القصور والفلل الفخمة والشوارع الواسعة والأشجار الكثيفة ، لا احد يتحرك فى الشارع، أمسك الأستاذ أحمد بالورقة وصارا يلفان المكان حتى اهتديا أخيرا الى فيللا صغيرة أنيقة عليها لوحة صغيرة مكتوب عليها اسم الدكتور باللغة الإنجليزية، كانت الساعة حوالى الثالثة عصرا، بتردد دقا الجرس وانتظرا بعيدا عن الباب، بعد لحظات فتح الباب رجل يلبس شورت وفانلة، سألاه ان كان هو الدكتور رازرفورد فأومأ بالإيجاب، كانا لا يعرفا الا كلمات قليلة من الإنجليزية وهو لا يعرف الا كلمات أقل من العربية، شرح له الأستاذ جلال المشكلة، أخبراه أن لهم زميل مصرى مات فى حادث سير وجثته فى المشرحة وان الطبيب الشرعى يرفض ترحيل الجثة، دعاهم الدكتور رازرفورد للدخول حتى يغير ملابسه، لم ينقطع حديثه طول الوقت عن مصر، أخبرهم بانجليزية حاول تبسيطها كثيرا كيف انه قارئ مدمن لعلم المصريات، ويعرف اهتمام المصريين بالموت والبعث، فى الطريق الى المستشفى بسيارته ذات الدفع الرباعى ذكر لهم انه منذ اكثر من سنه لم يعاين جثة مصرى، كانت تبدو عليه السعادة وهو يتكلم عن مصر وتاريخ الفراعنة، لم يكونوا على علم بمعظم ما يقول، بعد وصولهم اصطحبهم مسرعا الى الداخل، طلب من الموظف ان يفتح ثلاجة الموتى ويخرج جثة المصرى، بنظرة سريعة أخبرهم ان الجثة بحالة جيدة وانه سيقوم بعمل اللازم ويمكن نقلها الى مصر ولو بعد شهر، طلبوا منه شهادة تفيد بصلاحية الجثة للترحيل، فتح مكتبه وكتب لهم الرسالة ووقع عليها وختمها.
أسرعا الى السفارة وقد عقدا العزم على خوض معركة مع القنصل أو حتى السفير، لكن الأمور سارت بسلاسة وحصلوا على الموافقات المطلوبة.
فى الطريق الى المطار كان هناك رتل طويل من السيارات، تقريبا كل المصريين بالولاية وزوجاتهم وأطفالهم كانوا خلف سيارة نقل الموتى، كانت السعادة والبشر والإحساس بالإنتصارعلى وجوههم وكأنهم يزفون عريسا.
No comments:
Post a Comment