Sunday, April 02, 2006

أبانا الذى على الأرض




كان والدى محمد أفندى المرّ ناظرا للوقف الخاص بالسيدة باتعة هانم الذى آل اليها من والدها صفوت بك الحلو من كبار ألأعيان. لم اكن اعرف بالتحديد طبيعة عمل أبى الذى كان يذهب اليه كل يوم, مرتديا البدلة والطربوش, ممتطيا الركوبة, تعلوها بردعة أشبه بسرج, رافعا فوق رأسه شمسية سوداء دائما طوال ايام السنة. مرت سنوات كثيرة منذ رحل عنّا, لكننى اذكره باناقته الشديدة دائما, وذقنه الحليق, ورائحة عطره النفّاذة.
على العكس منه كانت والدتى رحمها الله, فلاحة بسيطة طيبة, لا تهتم الا بالخبيز والكنس وحلب الجاموسة, ورعايتنا نحن الخمسة, لكنها كانت مهووسة دائما بالنظافة وأداء الصلوات الخمس فى مواقيتها. كنا أربعة اولاد وبنت, أكبرنا على , وأصغرنا بهية, غير مسموح لنا باللعب مع اقراننا, أو بالتأخر خارج البيت بعد غروب الشمس, ولا يسمح لنا بالمزاح بصوت عال داخل البيت, خاصة بعد عودة الوالد من عمله قبل الغروب.
كنت الولد الاوسط فى اخوتى, لم أكن مقربا كثيرا من ابى, مثل اخى الاكبرالذى كان كثيرا ما يختلى به, ويسًر إليه بأموركثيرة لا أعرفها, وقد كان له بعضا من سطوة أبى,حتىعلى أمى, التى كانت تفضل رفقة بهية معظم الوقت, بعيداعنًا.
لم أكن اعرف ماذا يقوم ابى بعمله, كان بى فضول شديد كى اعرف ذلك, ولكنى لم اكن اجرؤ على السؤال, كنت احيانا اصعد فوق السطح, مخترقا المحاظير التى وضعتها أمى, حيث أضطر لإرتقاء السلم الخشبى الموضوع فوق الليوان العلوى, متطلعا الى الافق البعيد, حيث يظهر مبنى ضخم احمر اللون, هناك كان يعمل ابى, كنا نسميها عزبة باتعة هانم.
***
كان ابى يعامل امى معاملة طيبة, كان يناديها فى اغلب الاوقات بأم على, عدى فى أوقات غضبه ( وكانت قليله) كان يناديها بإسمها مجردا, كانت أمى تعامله بإحترام كبير, كنت كثيرا ما اشاهدها تجلس بين قدميه تدلكًهما بالماء الدافئ والملح, تحرص دوما على ان تكون ملابسه نظيفة ومكواه, تجلس قريبة منه اثناء تناوله الطعام, لا اذكر اننا كنا نتناول طعامنا معا سوى يوم الجمعة, حيث يعود من العمل ظهرا, يصلى الجمعة وبعدها نتناول الطعام جميعا.
***
فى هذا العام كنت قد انتهيت من امتحان البكالوريا, والذى يؤهل لدخول الجامعة, كنت ارغب فى دخول كلية العلوم, كانت الامتحانات تنتهى فى يونيو, وتظهر النتائج فى اوائل اغسطس, وكانت تلك الفترة بطيئة وممله, كنت كثير القراءة, كان لدى الوالد مجموعة من كتب التراث, كنت أعيد قرائتها كل عام.
وبينما كنت أبحث فى صندوق الكتب, عثرت على مفتاح قديم, تذكرت هذا المفتاح, انه مفتاح مكتب ابى, الذى كان يجلس عليه بعد العشاء يراجع حسابات العزبه,كان مكتبا خشبيا قديما له درجان, أمسكت بالمفتاح وادخلته فى درج المكتب الاعلى فانفتح, وجدت فى الدرج كومه من اوراق الحسابات والايصالات, تفقدتها سريعا, لم أجد فيها شيئا مهما, اعدتها مكانها واغلقت الدرج.
فتحت الدرج الاسفل, كان هناك ظرف اصفركبير, متآكل الاطراف, ممتلأ بالاوراق, فتحته وسحبت أول ورقه, عندما إصطدمت عيناى بالسطر الاول احسست بقشعريرة,لم أصدق عينى, إنها قسيمة زواج!!قرأت,,إنه فى يوم الثلاثاء الرابع من شهر رجب 1357الموافق 7يوليو1946ميلادية بمعرفتنا نحن اسماعيل حسن ابو الخير مأذون ناحية كفر النورس التابعة لمحكمة........... تزوج محمد عبد الحميد المرّ المباشر بنفسه الآنسة تفيدة محمود الحلو البكر الراشد ........انعقد لسانى وأصابنى ذهول, أعدت قراءة الاسماء أكثر من مرة, لا يوجد خطأ فيها, انه فعلا أبى والاخرى هى تفيدة هانم الابنة الكبرى للسيدة باتعة, اذداد فضولى, قلبت باقى الأوراق بسرعه, كانت المفاجئة الثانية, قسيمة طلاق, تاريخها اقل من ستة أشهر من الاولى, على يد نفس المأذون, فى أسفل الأوراق وجدت غلافا آخر أصغر حجما, توجد بداخله مجموعة من الأوراق ملفوفة بشريط حريرى أحمر, مجموعة خطابات كتب عليها ( من ربة الصون والعفاف , سليلة الرفعة والاشراف , الآنسة الفاضلة تفيدة هانم الحلوحفظها الله )ه

***
تسع خطابات, مكتوبة بخط جميل, وباسلوب رقيق, يظهرفى ثناياها بعض ما حدث
كانت تعرفه عن بعد, يأتى اليهم اثناء زياراتهم المتكررة للعزبة, شاب وسيم, مليح, طويل القامة, دمث الاخلاق, لا يكاد يرفع عينيه عن الأرض.
كان يعامل والدتها باحترام شديد, ينحنى مبتسما فى حياء, عندما يقدم لها كشوف الحسابات او المصروفات. كانت أسعد لحظاته على الاطلاق عندما تطلب منه الهانم الصغيرة شيئا, كان يطرب كثيرا لسماع إسمه بين شفتيها, يجرى ملبيا, بانحناءه خفيفه, والإبتسامة لا تفارق شفتيه.
كان الكل معجبا به, يعتبرونه اصبح منهم, لكن فى حدود شخص يعمل لديهم.
هذا العام لم تحضر الاسرة الى العزبة, كان يتصل تليفونيا احيانا بالهانم الكبيرة بخصوص العمل, لم يكن يجرؤ على السؤال عن عدم الحضور, إستدعته مرتين الى القاهرة لاسباب تتعلق بالحسابات, فى تلك الزيارات كان يهتم كثيرا بمظهره, يسعد كثيرا بتلك اللحظات التى يجلس فيها معهم, يتكلف كثيرا على المائدة كى يبدو متحضرا.
فى يوم حار, عند ذهابه للعزبة فى الصباح , فاجأه وجود السيارة أمام باب القصر, لم ينبؤوه بقدومهم قبلا, هذه أول مرة يحدث هذا, يأتون دون سابق إنذار, احس بالانقباض, ولج من البوابة الكبيرة, لم يجد احدا فى المدخل, صفق بيديه, صوت الهانم من الداخل يؤمره بالدخول فدخل, لاحظ ان الخدم غير موجودين, لايوجد سوى السائق,حيته الهانم بحرارة غير معتادة, طلبت من السائق ان يجهزلهما القهوة وينصرف غير بعيد, بادرت بالسؤال عن الأولاد, مرتبكا أجاب بحمد الله,بدأت تتحدث فى أمور عامة لفترة من الوقت, توقفت فجأة, إستأذنت ان تدخل فى الموضوع مباشرة, غير مستوعب وافق, سألته عن رأيه فى الهانم الصغيرة,سأل من أى ناحية, أجابته من جميع النواحى, بدون تفكير ذكر أنها ملاك يمشى على الأرض.
***
لم يدر فى خلده , ولم يطف بخاطره للحظة ما سمعه من الهانم, هز رأسه غير مصًدق, إستأذنها أن تعيد عليه ماقالت, صحيح إذن ما سمع, إنها تعرض عليه أن يتزوج إبنتها تفيدة,كان لم يزل تحت وقع الصدمة, جف حلقه وتشقق لسانه, اخيرا خرج منه صوت متحشرج ضعيف, كصوت الفحيح, ذاكرا أن هذا شرف لايحلم به.
تم كل شيء بسرعة كبيرة, نادت السائق وأشارت له بإشارة ذات مغزى,خرج مسرعا, إنصرفت لكى تطلب من الهانم الصغيرة القدوم.
دخلت الهانم الصغيرة الى الغرفة مطرقة, لاحظ شحوبها, هالة سوداء حول عينيها, لكنها من قرب تبدو كأميرة من أميرات الأساطير.
حضر المأذون مسرعا, كانت هيأته تدل كأنما أنتزع من فراشه, تمت كتابة العقد على عجل وبدون جلبة, إنصرف الشهود بعدها مسرعين, وبقى ثلاثتهم جالسين فى صمت, قطعه صوت الهانم الكبيرة معلنة أنها ذاهبة الى المطبخ لتجهيز الشربات, قالت أن عليهما أن يسرعا لأنهما عائدتين إلى القاهرة بعد الغذاء.
***
فى طريق العودة الى البيت كان لا يزال فى ذهول, لايكاد يصدق ما حدث, توقف أكثر من مرًة, تمنى الأً يعود البيت, خشى ألا يستطيع أن يخفى ما حدث, لكنه إستمر فى طريقه, يعيش تلك اللحظات التى جلسا فيها معا, حديثها المتدفق, إبتسامتها التى تضيء المكان, إحساسه انها أصبحت له, ولو لساعتين فقط قضياها معا, ماذا سيحدث بعد ذلك, هو لا يدرى, القرار ليس لهما, صاحبة القرار فى كل شيئ هى صاحبة العصمة باتعة هانم .
أغلق عليه غرفته, لم يسمح لأحد أن يدخل عليه, حتى أم على, كان يريد أن يخلو الى نفسه.
***
لعدة أيام إمتنع عن الذهاب إلى العمل, ظنوه مريضا, أو هو كان بالفعل, زاهدا فى الطعام, حتى الصلاة لم يعد يذهب إلى المسجد لأدائها, لقد إنقلبت حياته رأسا على عقب, حتى تلقى أول رسالة منها.
ما إن ضم الرسالة بين يديه حتى أصابته رجفه, لأول مرًة تكتب إليه بإسمه مجردا, رفعت الكلفة, كان لكلمة حبيبى مفعول السحر, ماذا عندما قرأها أحس أن الدنيا لا تسعه, شعر بالرغبة فى عمل أى شيئ من أجلها.
عاد الى حياته اليومية, مع مزيد من الهمًة والنشاط, وكأن لا شيئ تغيًر, يعمل فى وسيًة الهانم من الصباح حتى المساء,روتين عمل يومى جامد, لا يكسره سوى رسائلها, التى تشبه واحة ظليلة فى أديم الصحراء.
عرف منها أشياء كثيرة , حكت له عن حياتها وما مرًت به من ظروف, عن علاقة مدمرة مع رجل يحمل ضعف عمرها من سنوات, كان صديقا لوالدها رحمه الله, زواج لم يعمًر سوى شهور, عانت خلالها الكثير, أثمر عن طفلة معاقه.
مرًت شهورا خالها دهرا, لا يتخللها سوى رسائل شحيحة منها, كانت ملاذه فى ليله الطويل, يستعيد قرائتها مرات ومرًات حتى حفظها, طوى عليها جناحه ومخبأ اسراره.
***
فى أحد أيام شهر يناير, دق قلبه بعنف وهو يقترب من العزبه, شاهد السيارة واقفة أمام باب القصر, نعم هى بعينها,السيارة الفورد السوداء, لكز الركوبة بعنف, لم ينتظر حتى يؤذن له, إقتحم المدخل مستعجلا, فى الردهه إلتقته باتعة هانم بفتور, قبل ان تبادره بالكلام سألها أين الهانم الصغيرة, جاءه الرد كأنه دش بارد, إنها غير موجودة, احس بإرتخاء فى أطرافه, احس بأن رجليه لاتستطيعان حمله, جلس دون إستئذان, أحس أن الأسوأ ماهو قادم, بلع ريقه فى صعوبه, سأل إن كان شيأ الًم بها, لم يسمع جوابا, بعد فترة صمت عاد يكرر السؤال, أجابته أن ينتظر, سمع منها كلاما لم يستطيع فهمه, عن القسمة والنصيب, والعلاقات الأخوية والعشرة الطيبة, أحس أن الدنيا تدور, وأنه غير قادر على فهم مايحدث, كل ما أدركه فى النهايه هوتطلب أن يتم الطلاق.
تم كل شيئ بسرعة كما بدأ, خرج يجرً قدميه فى يأس وإحباط, كيف تم ما تم؟, ولماذ؟ا, ماهو خطأه؟, أين هى؟, وما موقفها بالتحديد؟, أسئله ظن انّه لن يجد إجابة عنها.
***
حاولت البحث عن أوراق أخرى, لم أجد, طويت الأوراق ذاهلا, أعدتها إلى مكانها غير مصدَق, احسست أننى فى حاجة لإستنشاق بعض الهواء, أغلقت المكتب, وضعت المفتاح فى جيبى, فى طريقى إلى السطح مررت بالصالة, كانت أمى مضجعة على الأريكة, نظراتها حانية,هذه الأم الطيبة, أفضل كثيرا أنها لا تعرف شيئا, صعدت الدرج الحجرى, وإرتقيت السلم الخشبى , رنوت البصر إلى البناء الأحمر الكبير وقد غلًفه الغروب, جال فى خاطرلى سؤال, هل نحن نصنع الظروف أم أن الظروف هى التى تصنعنا؟.
( تمت )
تأليف: بنتاؤور

2 comments:

Anonymous said...

Really amazing! Useful information. All the best.
»

Anonymous said...
This comment has been removed by a blog administrator.