Monday, June 02, 2008

فى الذكرى الثانية لرحيل نبيل الهلالى


القديس النبيل

ما كان أحوجنا اليك هذه الأيام, لم نكن فى حاجة الى اللجوء اليك فى المدلهمات والنوازل, كنت دائما حاضرا, بإبتسامتك الوادعة كطفل, وبثقتك وهدوئك الراسخين, لم تسمع يوما عن قضية عمالية أو فلاحية أو وطنية إلا كنت أول الحضور, قبل أن نفكر فيك كنت تفكر فينا, تدخل الى قاعة المحكمة بجسدك النحيل الذى هدّته السجون والمعتقلات, ونظارتك العتيقة, وإبتسامتك الصافية, وصوتك الذى لم نكن نسمعه الا همسا فى المناقشات, فإذا به صوتا جهوريا عملاقا فى الدفاع عن المظلومين, أين أنت الآن يا أبو زيد, كم نحن فى حاجة اليك.
كنت بيننا كفرد منا, بل كنت دائما تعطينا الإحساس بأنك فى حاجة الينا, كنا عندما نمارس الفعل الثورى نعتمد على أن ورائنا ظهرا قويا يحمينا, رجل بحجم كتيبة كاملة, كنت تسأل عنا فردا فردا, وكأننا أصدقاء قدامى, تعطينا الإحساس بالأمان, والقوة, والثقة فى المستقبل, لم تكن فى مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها قضية طلابية أو عمالية أو فلاحية إلا كنت تتصدى بكل كيانك وروحك دفاعا عن الوطن.
لقد عرفت القوى السياسية جميعها فى مصر "أحمد نبيل الهلالى" كمدافع صلب فى القضايا الوطنية فى قاعات المحاكم, ولكن لم يكن الجميع يدركون دوره السياسى العظيم فى إطار الحركة اليسارية المصرية, فقد بدأ نضاله السياسى مبكرا منذ عام 1948 فى تنظيم الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى"حدتو" أهم وأكبر التنظيمات الشيوعية المصرية فى هذا التاريخ والتى إتخذت هذا الإسم بعد اتحادها مع "منظمة الشرارة" فى عام 1947, وذلك فى بداية إلتحاقه بكلية الحقوق, وظل طوال تاريخه الحافل متمسكا بأجمل وأنبل ما فى هذا الفكر, منحازا للفقراء والكادحين, مضحيا بحياة القصور والسرايات.
ولد" أحمد نبيل الهلالى" فى السابع من أغسطس للعام 1928بمدينة أسيوط وأسلم الروح فى 16 يونيو عام 2006, وبين رحلة الميلاد والموت حياة حافلة بالنضال والسجون والعمل السياسى والروح الكفاحية بين حركة حدتو والحزب الشيوعى المصرى الموحد1958, والحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات بعد دفاعه السياسى فى 15 يناير 1959, ورفضه لحل الحزب فى 14 مارس 1965, ثم إعادة بناء الحزب مع عدد قليل من قياداته التاريخية على رأسهم صديق عمره ورفيق كفاحه "زكى مراد" والذى لقى حتفه فى حادث سيارة غامض, وليستمر الهلالى فى قيادة الحزب بذات الروح النضالية العالية, بعد أن كان قد تخلى نهائيا عن ثروته من ميراث والده "الباشا" آخر رئيس للوزراء بمصر قبل الثورة, ووزع تلك الثروة على الفلاحين الذين كانوا أجراء للأرض.
وعندما أطلق رفاقه لقب "القديس" عليه, كان بسبب زهده وإختياره حياة بسيطة ومتقشفة, وصلابته الشديدة فى الفاع عما آمن به, وليس أدل على ذلك من تكرار دفاعه السياسى عن التنظيم الذى ينتمى اليه, حيث أن الدفاع السياسى يعنى أن يعلن المتهم عن إنتمائه العقائدى, وأن يطرح فى قاعة المحكمة دفاعه عن هذا المبدأ, متحملا تبعات هذا الموقف, وما يترتب عليه من تحدى للسلطة, ومواجهة لعقابها.
حدث هذا مع الراحل العظيم أكثر من مرة, الأولى فيما عرف بقضية الشيوعيين الكبري، أمام محكمة المجلس العسكرى برئاسة الفريق هلال عبدالله هلال فى 15 أغسطس 1959 وأمام طوفان التعذيب والتهديد ليقدم دفاعا سياسيا عما يراه الشيوعيون لوطنهم، ويجمع رفاقه أجمعون أن دفاع نبيل كان مثالا رائعا للمناضل الثورى وأن هذا الدفاع كان من أروع ما قدم فى هذه القضية.
المرة الثانية عندما قدم مرافعة قانونية وسياسية فى قضية الحزب الشيوعي المصري عام 1981
والتى كان المتهم الرئيسى فيها, وصدرت هذه المرافعة فيما بعد فى كتاب بعنوان" حرية الفكر والعقيدة , تلك هى القضية", دفاعا عن حرية الفكروالإنتماء, وعن مبادئ وأفكار وخط الحزب.وإختتم نبيل الهلالى مرافعته بالقول (إسمحوا لي أن أختم مرافعتي بأن أعبر عن ثقتي الكاملة في أن ترزية القضايا مهما تفننوا في الاختلاق ومهما أتقنوا فنون التلفيق سيكونوا عاجزين لا محالة عن تضليل العدالة؛ لأن العدالة تظل لها عينها الساهرة، وهي دوما قادرة على انتشال الحقيقة من تحت ركام الأباطيل..).
وأذكر هنا واقعة طريفة حدثت أثناء التحقيق فى هذه القضية, عندما كانت النيابة تحقق فيها, وبسؤال أحد المتهمين (ولم يكن عضوا بالحزب) ما إذا كان يعرف المدعو "نبيل الهلالى" فأجاب مازحا أنه لا يعرف سوى "أبو زيد الهلالى", وكانت المشكلة أن الإسم الحركى لنبيل الهلالى هو أبوزيد.
لم تكن لتملك الا أن تحبه, وأن تحترمه مهما إختلفت معه, لذا فقد إختاره زملائه المحامين لعضوية مجلس النقابة لمدة 22عاما متتالية, وذلك فى الفترة من 1968 إلى 1992, وقد كان ديدنه دائما, وبوصلته فى الحياة هو حرية الرأى, والدفاع دائما عن أصحاب الفكر حتى لو إختلفوا معه, أو كفّروه كما حدث كثيرا, لقد دافع عن المتهمين فى قضايا التكفير والهجرة وقضايا الجهاد والإخوان المسلمين وجميع قضهيا الرأى والفكر فى مصر وأدى به ذلك الى الإختلاف مع رفاقه وأصحاب مسيرته, وهو ما حدث بالفعل حين إنفصل عنهم عند هذه النقطة تحديدا, منشقا عن الحزب الأم, مشكلا "حزب الشعب الإشتراكى" فى عام 1987 ليستمر فى التعايش مع مبادئه فى الدفاع عن المختلفين معه فى الرأى من الجماعات الإسلامية المتطرفة والإخوان المسلمين تحديدا, وكل صاحب رأى أو فكر.
لذا فلم يكن من المستغرب أن يودعه الجميع بكل المحبة والتقدير, فقد ضمت جنازته جميع ألوان الطيف السياسى فى مصر, من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين, كان فى وداعه التروتسكيين والشيوعيين والناصريين والليبراليين والإخوان والمتشددين دينيا, وأيضا ممثلين للحزب الوطنى الحاكم.
وقد كان الفقيد يملك روح دعابة متميزة, يفلسف فيها الظروف القاسية للتخفيف عن الرفاق فى محنتهم, يذكر أنه فى الأوردى وتحت طائلة الجوع , كون فريقا من الرفاق ينحتون القشر المتبقى من البطيخ وأطلق عليهم إسم"فريق النحت الذهبى", وأنشأ كذلك بنفس السجن مجلة هوائية يومية ,ضمّنها موضوعات سياسية وثقافية وفنية وفكاهية, وشارك فيها كل المساجين.
هكذا انطوت صفحة مضيئة من صفحات النضال الوطنى, وترجل القديس النبيل من فوق صهوة جواده فى جلال ومهابة, راحلا فى صمت كما عاش فى صمت, آخر فرسان هذا الزمان.
طبت حيا وميتا يا رفيق.


صفحات من حياة ( أحمد نبيل الهلالي)
• الأسم: أحمد نبيل الهلالي • نجل نجيب باشا الهلالي أخر رئيس وزراء للدولة المصرية فى العهد الملكي• من مواليد 7/8/1928 • حاصل على ليسانس الحقوق عام 1949 واشتغل بالمحاماة من هذا التاريخ • انتخب عضوا فى مجلس نقابة المحامين فى الدورات المتتالية منذ عام 1968 حتى 1992 • انضم للحركة الشيوعية المصرية منذ 1948 وكان أحد كوادر الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى"حدتو"• اعتقل مطلع عام 1959 واستمر الاعتقال لمدة خمس سنوات ثم اعتقل مرة أخري عام 1965 ورفض التوقيع على حل التنظيم شرطا للإفراج عنه واستمر الاعتقال أربع سنوات.• له مؤلفات منها كتاب حرية الفكر والعقيدة .. تلك هى القضية وهو عبارة عن مرافعة قانونية وسياسية فى قضية الحزب الشيوعي المصري عام 1981 والتى كان هو أحد المتهمين فيها وكتابه الأخير هو "اليسار الشيوعي المفتري عليه.. ولعبة خلط الأوراق"وهو عبارة عن ردود على الأكاذيب التى استخدمتها الرجعية المصرية فى حربها ضد الشيوعيين المصريين.• اعتبر مكتبه مقصداً لكل العمال والمقهورين بالإضافة إلى شهرته الذائعة فى الدفاع عن الخصوم السياسيين للسلطة المصرية وخاصة دفاعه عن أعضاء الجماعات الإسلامية وتيار الإسلام السياسي عموماً،أشهرها مرافعته عن المتهمين فى قضية أغتيال رئيس مجلس الشعب الآسبق "د.رفعت المحجوب" ومرافعته فى قضية" الدكتور عمرو عبد الرحمن" بالإضافة إلى مرافعاته فى القضايا العامة مثل قضية أحداث يناير 1977 وقضية إضراب السكة الحديد عام 1986 وقضية حريق قطار الصعيد،ومرافعته فى قضية المستشاريين "هشام البسطاويسي" و"أحمد مكي" وغيرها من القضايا العامة.• توفي فى يونيو عام 2006

1 comment:

Anonymous said...
This comment has been removed by a blog administrator.