Saturday, August 02, 2008

حسن ومرقص...وقبول الآخر



لقد كانت جرأة من الكاتب الساخر "يوسف معاطى" أن يدخل هذه المنطقة المحرمة, معلقا الجرس فى رقبة القط, وأن يمد كلتا يديه داخل عش الدبابير, ليضغط على الجرح محاولا إخراج القيح والعفن منه, ليكشفنا جميعا عرايا حتى من ورقة التوت, وأننا جميعا خطاؤون فلا يستطيع أحد أن يمسك بحجر, وولنكتشف أننا ابتعدنا كثيرا عن ذلك الزمن الجميل المتسامح, وجرت في النهر مياه كثيرة.
كذلك كان لقاء فنانين بحجم عادل إمام وعمر الشريف فى عمل مشترك ضد التطرف والإرهاب جدير بالترحيب والإحتفاء, خاصة وأن هذا العمل يتوج مسيرة طويلة للفنان عادل إمام من عمل أفلام تواجه الفكر التكفيرى, والتيارات الأصولية مما جعل حياته شخصيا مستهدفتا من قبلهم.
لقد بدأت مشاكل الفيلم منذ كان ورقا, وخرجت شائعات كثيرة حوله, منها ما قيل حول تدخل الكنيسة والبابا فى سيناريو الفيلم, الى إتهام عادل إمام بالتحول إلى الدين المسيحى, والدعوة إلى مقاطعة الفيلم وجميع أعماله, ومن حديث حول إنسحاب المخرج شريف عرفة من أسرة الفيلم لخلاف حول السيناريو.
لقد أراد الكاتب"يوسف معاطى" والمنتج"عماد أديب" والنجم "عادل إمام" أن يوصلوا رسالة قوية مضمونها أنه توجد فى العمق توترات حادة, وأحقاد متبادلة, وشائعات حول رغبة كل طائفة فى السيطرة ومحو الطائفة الأخرى, وأنه لو لم نتدارك ذلك بسرعة فسينفجر الوطن ملقيا حممه على الجميع, يظهر ذلك فى الإتهامات المتبادلة كعبارات (لا يوجد متسول مسيحى واحد) و (اللى في القلب فى القلب يا كنيسة)
والفيلم يدور حول فكرة محورية هى التطرف الدينى على الجانبين, مما يدفع بأجهزة الأمن إلى تهريب رجل دين مسيحى"عادل إمام" بإسم مستعار لشيخ مسلم (حسن العطار) مع إطلاق أسماء إسلامية لزوجته"لبلبة" وإبنه"محمد عادل امام" إلى محافظة المنيا حماية له من جماعة مسيحية متطرفة, وكذلك تهريب رجل مسلم صوفى"عمر الشريف" وأسرته الفنانتان هناء الشوربجى وشيرين عادل, إلى نفس المنطقة بإسم رجل مسيحى يدعى (مرقص) لتأمين حياته من جماعة إسلامية متطرفة, ومن هنا جاء إسم الفيلم "حسن ومرقص", لتدفع بهم الظروف إلى السكنى متجاورين فى بيت واحد, لتجتهد كلا الأسرتين فى إخفاء هويتهما الأصلية, ومحاولة التقرب من الأسرة الأخرى ظنا منها أن الآخر على نفس دينه, ومن هنا تبنى تيمة الفيلم الأساسية , وتنوع المشاهد الكوميدية.
بيد أن التناول الذى جرى من سيناريو وإخراج عليه كثير من الملاحظات, فقد عاب الفيلم مباشرته الشديدة وتقريريته حول واقع الإحتقان الطائفى دون بذل عناء التأصيل للجذور التاريخية والاجتماعية والأمنية لهذا الصراع, وجاءت المعالجة بشكل سطحى وساخر, ولم يظهر طوال العرض أى مظهر للتقارب الإنسانى أو الإجتماعى بين الطائفتين سوى بين شخصين أو أسرتين يعتقد كل منهما أن الآخر على نفس دينه, وفى لحظة أن يتم الكشف عن الحقيقة يظهر كل منهما أسوأ ما فيه تجاه الآخر, رغم المقدمة الطويلة عن أنهما شخصين مختلفان فى فكرهما عن الآخرين, وأنهما مطاردان بسبب هذا الإختلاف, لولا حدوث كارثة طائفية مفتعلة ليحترق البيت فيعود التقارب الإنسانى بينهم, ليثار تساؤل بسيط, ماذا لو لم يحدث هذا الحريق, أو هذا الشجار المفتعل, كيف كان يمكن أن ينتهى الفيلم, هذا بينما الواقع المعاش رغم الإستقطاب الحادث , ما زال ثريا بالكثير من العلاقات الإنسانية الجميلة.
حقا لقد أشار الفيلم فى بعض ألفاظه إلى ذكريات قديمة عن التسامح, وأن العلاقات الإنسانية لم تكن تهتم بدين الآخر, ولم تكن أفلام الأبيض والأسود منذ "فاطمة وماريكا وراشيل 1949"و"حسن ومرقص وكوهين 1953" إلا تعبيرا عن هذه الروح, فقد أفسد صعود الفكر الأصولى المتشدد وسيطرة التيار الوهابى المتجمد, لأسباب ليس هذا مجال شرحها, لقد سببت أخطاء تاريخية فى خروج اليهود من مصر خصوصا بعد عام 1956 , وسبب التشدد الإسلامى فى تقليص أعداد المسيحيين بالمنطقة بشكل حاد, حتى في تلك المناطق التى ولد وعاش فيها المسيح كبيت لحم, وحتى فى لبنان رمز التعايش بالمنطقة يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل أن أعداد المسيحيين إنخفضت به من أربعين إلى عشرين مليونا, لقد سقط إسم كوهين من الفيلم القديم, ويخشى الكثيرون أن يسقط إسم مرقص أيضا بعد ستين سنة أخرى.
أذكر واقعة شخصية فى بدايات السبعينيات من القرن الماضى, حيث كان طلبة الجامعة المغتربين بالأسكندرية يسكنون فى غرفة مفروشة بإحدى الشقق التى تقيم بها عائلة سكندرية, حدث أن أقمت مع أسرة مسيحية, مع جد وجدة مسيحيين, يأتى لزيارتهم على فترات متباعدة الأبناء والأحفاد, كنت أعيش معهم فى ود وسلام, حدث فى أحد أعيادهم مع إنتهاء صوم العدرا (كما ينطقها المصريين) أن الجدة أعدت طعاما فخما وكثيرا لأولادها, وعندما تأخروا أصرت على وأصدقائى أن نحتفل معهم بالوليمة, هكذا كان الحال فى تلك الأيام ولكن الوضع تغير كثيرا للأسف.
من الكلمات القليلة والمؤثرة فى الفيلم ذكر عادل إمام لرحلة العائلة المقدسة إلى مصر عندما لجأت السيدة مريم وطفلها يسوع بصحبة يوسف النجار وطوافهم بمعظم أنحاء مصر وصولا إلى دير المحرق بأسيوط حيث جاءتهم البشارة بالعودة الى فلسطين.
على كل الأحوال, لن نبكى على اللبن المسكوب, ولكنها مجرد أمثلة على زمن مضى, وتاريخ مضيئ, ومثال ذلك الوفد حزب الأغلبية الشعبية التقليدى, وشعاره المعروف"الدين لله والوطن للجميع"حيث مثل المسيحيين فى بعض مراحله اغلبية أعضاء الهيأة الوفدية, مثل سينوت حنا وويصا واصف ومكرم عبيد وإبراهيم فرج وغيرهم كثيرون, ولم يكن لذلك أى حساسية لدى الجماهيرالمسلمة.
أضف إلى أن السيناريو فى محاولة مغازلة قوى التشدد الإسلامى حاول الموازنة بين التطرف الإسلامى والمسيحى من خلال الهجوم المتبادل, والعنف المتبادل, ولكن الجميع يعلم يقينا أن عنف الجماعات الإسلامية هو أساس المشكلة كلها, وليست أحداث أبوفانا والجواهرجية ومحرم بك ببعيدة, كما أن التصفيات الجسدية هى صفة تخص الجماعات السلفية الجهادية أساسا, وفكرة تهريب رجل دين مسيحى وإلباسه زى رجل دين إسلامى من قبل الجهاز الأمنى خوفا على حياته هى فكرة ساذجة الغرض منها تكملة المشهد الكوميدى.
على أن أكثر المناطق ضعفا فى الفيلم هو الإخراج, فواضح أن المخرج الشاب رامى إمام رغم إمكانياته الواعدة فى عالم الإخراج إلا أنه لم يزل غضا لتحمل فيلم بهذه الضخامة والحساسية , و هذه النوعية من الأفلام فى حاجة إلى عمق سياسى ومهارات خاصة, مما أدى به الى الإكثار من المشاهد الكوميدية على حساب العمل الفنى, بالإضافة إلى وجود جانب من التحيز فى طول المشاهد الخاصة بوالده على حساب مشاهد النجم عمر الشريف.
ولعب كاست الفيلم دوره بشكل جيد, ولكن كان الفنان عمر الشريف متميزا بأدائه الهادئ والراقى والمعبر.
كما أجاد عادل إمام فى لعب دور رجل الدين المسيحى وإن بالغ فى الأدوار الكوميدية كما توقعنا منه ذلك, كذلك كان دور محمد إمام فرصة لإثبات وجوده لولا محاولته تقليد والده, وأدت الشابة شيرين عادل دورها بتميز.
أيضا كانت موسيقى ياسرعبد الرحمن علامة إيجابية مؤثرة فى الفيلم وخصوصا فى مشهد النهاية.
وإذا كان الفيلم قد طرح أسئلة أكثر مما قدم من حلول, وأظهر فى مجمله البون الشائع بين الطرفين, فإن موقف الأجيال الجديدة يعد إرهاصة وأمل فى المستقبل, كما ظهر فى موقف جرجس ومريم فى نهاية الفيلم بالقول هل تتغير القلوب بمجرد تغيير الأسماء؟
على أن أحد الأسئلة الكبرى التى لم يجيب الفيلم عنها هو ما مصير العلاقة بين جرجس ومريم؟ وهل يمكن أن تستمر بعد إنكشاف السر ومعرفة الوضع الدينى الحقيقى للطرفين؟ أشك كثيرا فى إمكانية إستمرارها فى الظروف الحالية, لقد أدى إرتداء عادل امام للصليب فى الفيلم الى كل هذه الحملة الشرسة ضده, فماذا كان ليحدث لو قرر تغيير دينه ؟

3 comments:

Al-Firjany said...

تحليل جميل جدا .. وحضرتك شوقتني للفيلم لأني ما كنتش عاوز أدخله لطبيعة تناول عادل إمام للتيار الاسلامي بصفة عامة. بس جايز الفيلم يكشف ما كنت آمل دوما الكشف عنه وهو العلاقة بين الآخر والأنا في الثقافة المصرية دون أحاديث أكلاشيهية أو تنميق لكلام لا وجود له في القلب. جيد تحليل حضرتك للفيلم ويشرفني التواجد هنا بين الحين والآخر لأني بإذن الله على وشك تدشين مدونة في التحليل السينمائي

Anonymous said...

انت مبدع

Anonymous said...
This comment has been removed by a blog administrator.