لا أعرف لهذه الوظيفة مرادفا فى البلاد العربية الأخرى، ولكن "المخبر" فى مصر هو ماركة مسجلة، معروف ببدانته وكرشه البارز، وشاربه الكث، وشفاهه الغليظة الشبقة، والباطو الكالح اللون على كتفيه، والعصا الغليظة فى يده دائما، قد تكون هذه الصورة النمطية قد تغيرت، وقد يكون هناك مخبرون الآن يلبسون التيشيرت والجينز، لكن تبقى صورة المخبر مطبوعة فى أذهاننا بهذا الشكل التقليدى.
لقد أبدع الفنان الكبير" داوود عبد السيد" فى فيلمه "مواطن ومخبر وحرامى" فى رسم شخصية هذا المخبر من خلال الفنان "صلاح عبدالله" الذى جسّد دور المخبر بإقتدار من ناحية الشكل والإسلوب.
أما من ناحية المضمون فشخصية المخبر تتميز بفقدان العواطف، فلا مجال للإنسانيات فى حياته، فهو على إستعداد أن يبّلغ عن أقرب المقربين اليه صدقا أو زورا بمنتهى الحقارة من أجل إرضاء رؤسائه ، هذه الشخصية النادرة التى تلتصق بمن باعوا أنفسهم للشياطين، نفس الشخصية التى جسدها الفنان الراحل "أحمد زكى" فى فيلم "معالى الوزير" وكيف أنه كان يكتب تقارير أمنية ضد زوجته، حيث كنا نسمى هذه النوعية من البشر أثناء الدراسة فى الجامعة بالمباحث، وهو نوع من الناس يتقمصون شخصية المخبر ولكن بشكل غير رسمى حيث يحاولون الظهور بمظهر الثورة والغضب على النظام من أجل النفاذ داخل الجسم الطلابى وكتابة التقارير للأجهزة، هذه النوعية الخسيسة من البشر العديمى الضمير والأخلاق ويشملهم الجواسيس يبقون دائما أقلية بل فرادى، ما عدا المخبرون والذين يقومون بأقذر المهام من مراقبة وتلصص وقبض وتعذيب ليسوا أقلية هامشية فى نظام حكم يهتم بأمنه قبل وبعد أى شيئ، إذ تقدر أعدادهم حسب بعض الإحصائيات بنصف مليون مخبر .
فى الأحياء الشعبية حيث يعيش المخبرين ويتناسلون ويتكاثرون لهم أدوار مختلفة، فهم دائما مدعاة للقللق والخوف من بسطاء الناس، والأذى والشر للباعة وأصحاب الدكاكين فهم بقوة ما يملكونه من ضرر يمثلون إبتزازا دائما للآخرين، ويحصلون على طعامهم وشرابهم ونفقتهم بأبخس الأثمان إن لم يكن سحتا.
قد يخشى الناس وخاصة البسطاء فى حياتهم رجال السلطة عامة، ولكنهم قد لايخافون من المخبرين بنفس الدرجة ولكنهم دائما يخشون غدرهم، ويمتد الخوف منهم الى الخوف من الآخر عادة، لأن المخبر لا يعلن عن نفسه صراحة مثل كثير من ممثلى الجهاز الأمنى، فيمتد هذا الخوف الى كل الآخرين والإنغلاق على النفس، وينشأ ما يعرف بالأغلبية الصامتة التى تخشى التعبير عن رأيها من جهة ولا تؤمن بأن صوتها له قيمة ولن يتم تزويره من جهة أخرى.
تحضرنى هنا قصيدة للشاعر المبدع "أحمد مطر" بعنوان "المخبر" يقول فيها:
عندي كلام رائع لا أستطيع قوله
أخاف أن يزداد طيني بلة
لأن أبجديتي
في رأي حامي عزتي
لا تحتوي غير حروف العلة
فحيث سرت مخبر يلقي علي ظله
يلصق بي كالنملة
يبحث في حقيبتي
يسبح في محبرتي
يطلع لي في الحلم كل ليلة
حتى إذا قبلت يوما طفلتي
أشعر أن الدولة
قد وضعت لي مخبرا في القبلة
يقيس حجم قبلتي
يطبع بصمة لها عن شفتي
يرصد وعي الغفلة
حتى إذا ماقلت يوما جملة
يعلن عن إدانتي، ويطرح الأدلة
لا تسخرو مني ، فحتى القبلة
.تعد في أوطاننا حادثة تمس أمن الدولة
تصوير دقيق للدولة البوليسية، حيث يخشى الجميع من الجميع، ويحسب أى شخص أن خلف الآخر مخبرا، وتنشأ ظواهر سلبية مثل النفاق والتقية، وهو إظهار عكس ما تبطن، وغيرها من السلوكيات التى تؤدى الى تشوه المجتمع.
إن الحل لتفكيك النظام البوليسى لا يمكن وجوده خارج النمط الديموقراطي، حيث تتسع دائرة الدولة المدنية فى مواجهة الدولة الأمنية، وحيث يمكن محاصرة التزوير والفساد والطوارئ والمعتقلات والتعذيب والمحاكم الإستثنائية وإقامة مجتمع حر لمواطن حر، يمكن محاكمته عند الحاجة أمام قاضيه الطبيعى.
ولكن تبقى صورة المخبر بشكله التقليدى صناعة مصرية صرفة.
Sunday, June 27, 2010
المخبر ... صناعة مصرية
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment