Sunday, December 06, 2009

شخصيات من السجن


محمد شعبان
ماذا لو أعطتنا الحياة كل ما نتمناه، أم أنه قانون الصراع الأزلى، منذ انقسم المجتمع الى
سادة وعبيد، من يملكون ويتحكمون، ومن عليهم الطاعة والعيش على هامش الحياة، هو لم يكن كذلك، تمرّد على هذا القانون الأزلى، قرر أن يشارك الأغنياء أموالهم، فاشتغل نشالا।
بدأ رحلته فى سن مبكر، حدد منطقته ترام الرمل، أيام الخواجات، كان الترام تحفة فنية بدرجتيه الأولى والثانية، قبله بزمن كانت عربات سويرس التى ينطقها العامة سوارس ، تمشى على عجلات وتجرها الخيول، بعد دخول الكهرباء تم تشغيل الترام ويتصل بأسلاك الكهرباء عن طريق عصا معلقة فى السقف تسمى سنجة، كان ترام الرمل متميزا، يبدأ من محطة الرمل وينتهى عند محطة فيكتوريا، حيث المدرسة العريقة فيكتوريا كوليج.
إلتقيته فى السجن وهو فى عمر متقدم، ربما تجاوز السبعين، كان يحفظ أغانى أم كلثوم ظهرا عن قلب، يملك أذنا موسيقية وصوتا رخيما، كان يستمتع كثيرا أن نطلب منه أغنية معينة لها، يستخدم أى شيئ ممكن لعمل إيقاع بيديه، وينساب صوته الجميل ليشجينا، كنا نتجاوز بعض الأخطاء فى النطق، هكذا إلتقطتها أذناه، لكنه لا ينشّز أبدا.
بين وصلات الغناء حكى لى قصته، ولد يتيما، رباه عمع الذى تزوج أمه، كان قاسيا عليه، ترك البيت مبكرا وانطلق الى معترك الحياة وحيدا، إلتقطه عالم الإجرام، عانى من قسوة المجتمع عليه، ومن ظروف الحياة القاسية، لم تتح له فرصة تعلم القراءة والكتابة، عمل بالمثل القائل" إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، تعلم النشل فى وسائل المواصلات الى أن إستقر به المقام فى ترام الرمل.
يروى لى قصة عن أحد الخوجات ركب وراءه الدرجة الأولى فى الترام، كانت محفظته عامرة، شاهدها بنفسة أثناء دفعه لثمن التذكرة، كان الخواجة حريصا، دسّ المحفظة فى جيبه ووضع يده عليها، لم يجد طريقة للوصول اليها، لاحظ ركوب زميل له فى المهنة، تبادل معه بعض العبارات الهامسة بلغة غير مفهومة الاّ لهم، تدخّل زميله وأسقط القبعة من رأس الخواجة، فى لحظة كانت المحفظة فى يده.
كسب أموالا كثيرة أنفقها جميعا، عرف طريق الكباريهات وتعرف على معظم الراقصات بها، عاش حياته بالعرض، لايعرف متى أحب صوت أم كلثوم، لكنه تعلق بها، لم يفوّت حفلة شهرية لها فى سينما الهمبرا، كان يتعمد الجلوس فى الصفوف الأولى، يحاول أن يلفت نظرها فى كل حفلة، كان يتمنى أن يتعرف عليها، حسب روايته إقترب منها بعد الوصلة الأولى وفى يده باقة ورد، أثناء إنشغالها بأخذ الورد منه نشل البروش الماس من على صدرها، فى نهاية الحفل ردّه اليها، وكان أن عرفته.
يذكر أنه كان مطلوبا دائما، فى إحدى الحفلات وبعد أن فتح الستار، أم كلثوم جالسة على الكرسى فى وسط المسرح، والفرقة الموسيقية تبدأ العزف، كان جالسا فى الصف الثانى، من آخر الصالة دخل ضابط مباحث، سار فى الممر الطويل دون أن يحدث جلبة، حتى وصل الصف الثانى، وضع يده على كتفه وأشار اليه أن يتبعه، تجاهله فى المرّة الأولى والثانية، فى الثالثة تعمد رفع صوته ناظرا الى أم كلثوم، أشارت للفرقة أن تتوقف عن العزف، وقفت لتسأل الضابط ماذا يريد، برد مهذب أفهمها أن هذا الشخص مطلوب للبوليس، أشارت بيدها بطريقة حازمة الى الضابط قائلة: إتفضل يا فندى محدّش يدخل حفلتى بالطريقة دىمهما كان السبب، إضطّر الضابط للخروج ولكن الى حين، بين الوصلتين خرج من باب جانبى، إعتلى سور السينما، هبط فى الشارع الخلفى، وجد موتوسكل واقفا، أسرع بالهروب.
تعودت على اللقاء به والعطف عليه، عرفت أنه تصله مساعدة شهرية من أم كلثوم، أعلن عن الإفراج عن مجموعة بمناسبة المولد النبوى وكان إسمه بينهم، لم يبد اى شعور بالفرح بل كان حزينا، شاهدته يومها يبكى بحرقة، لا يدرى أين يذهب بعد الخروج، ليس له أحد بالخارج، ليلتها عنبر له المسجونون تحية حب (بعد مساء الخير على غفر الليل..واحد يا ورد..اتنين يا فل... تلاتة يا ياسمين... اربعة يا أحسن ناس معلمين...أحب أعرفكم يا إخوانى إن عم محمد شعبان طالع بكرة إفراج...عاوزين تقولوله أيه...)، نداءات التحية توالت من الزنازين، غنى لنا حتى الصباح بصوت حزين، لكنه أطربنا.

1 comment:

Borsa said...
This comment has been removed by a blog administrator.